إصلاح مدونة الأسرة مطلب مجتمعي ملحّ(4)
من أشكال العنف الواجب إنهاؤها ما يتعلق بتزويج القاصرات الذي يصر الإسلاميون على تثبيته رغم ما يترتب عنه من مآسي صحية ونفسية واجتماعية (عدد طلبات تزويج القاصرات سنة 2019: 32000 طلب. سنة 2016 بلغ 39951. أما عدد الطلبات التي تمت الموافقة عليها سنة 2019= 25920 طلب. وسنة 2016 = 33631). هذا الواقع المرير يجب القطع معه بتجريمه.
سعيد الكحل
إن المغرب مطالب بأن يرقى بتشريعاته الوطنية حتى تنسجم مع التزاماته الدولية، من جهة، ومن أخرى تنْصف النساء وترفع عنهن كل أشكال العنف والتمييز خاصة فيما يتعلق باقتسام الممتلكات الزوجية الذي لا زالت الأسر تتحرّج من المطالبة بإبرام العقد الموازي لعقد الزواج والمتعلق بتدبير الأموال المكتسبة أثناء فترة الزواج.
ففي سنة 2011 تم إبرام فقط 609 عقد، ليصل سنة 2013 إلى 1520 عقد (المصدر: القضاء الأسري: الواقع والآفاق: عشر سنوات من تطبيق مدونة الأسرة. (وزارة العدل)؛ وهذا رقم ضئيل جدا مقارنة مع عقود الزواج المبرمة 306.533 سنة 2013.
من أشكال العنف الواجب إنهاؤها ما يتعلق بتزويج القاصرات الذي يصر الإسلاميون على تثبيته رغم ما يترتب عنه من مآسي صحية ونفسية واجتماعية (عدد طلبات تزويج القاصرات سنة 2019: 32000 طلب. سنة 2016 بلغ 39951. أما عدد الطلبات التي تمت الموافقة عليها سنة 2019= 25920 طلب. وسنة 2016 = 33631). هذا الواقع المرير يجب القطع معه بتجريمه.
التعصيب
من أوجه العنف المادي والتمييز ضد النساء الذي تكرسه المدونة، نجد التعصيب الذي لا سند له ولا تشريع في القرآن الكريم. بل فرضه الصراع السياسي على الخلافة بين علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وبين خصومهم الأمويين والعباسيين الذين ابتدعوا قاعدة التعصيب حتى لا تطالب سلالة فاطمة بنت الرسول (ص) بالخلافة. فالعاصب الذكر أولى من الأنثى.
فبالإضافة إلى أنه غير معمول به في المذهب الشيعي، فإن الثابت عن الرسول (ص) أنه طبّق “قاعدة الرَدّ” التي تمنع العصبة من الميراث عملا بقوله تعالى (وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ). والمنتظر من لجنة إصلاح المدونة العودة إلى قاعدة “الردّ” التي قضى بها الرسول (ص) وتعميمها على كل الحالات التي انفردت أو تعددت فيها الإناث دون إخوة ذكور أو وفاة الأزواج عن زوجات دون أولاد. أي في حالة وجود بنت أو أكثر دون الإخوة الذكور، فإن التركة كلها تؤول إلى البنت/البنات.
وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول “بالرّدّ”، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقال ابن سراقة: «وعليه العمل اليوم في الأمصار».
أما قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجابر بن يزيد: يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة. ولعل الأخذ برأي الخليفة عثمان بن عفان سيحمي الزوجات اللائي لم يلدن أولادا، أو لهن فقط البنات، من ظلم العصبة، ويضمن لهن الاستفادة من كل التركة.
إثبات النسب
وجه من أوجه العنف والتمييز ضد النساء حيث تتحمل الأم وحدها تبعات الإنجاب من علاقة خارج إطار الزواج بينما الأب البيولوجي يُعفى من كل التبعات.
وإذا كان الفقه التقليدي الذكوري يبرر رفضه إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي بالخوف من اختلاط الأنساب، فإن رفض اعتماد كل وسائل إثبات النسب، خاصة العلمية منها مثل البصمة الوراثية (ADN) في حالات الإنجاب خارج مؤسسة الزواج، هو ما يؤدي إلى اختلاط الأنساب. بل يتناقض مع الأمر الإلهي: ﴿أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله﴾ الأحزاب:5. ويكاد يجمع الفقهاء، عبر العصور، على أن “ماء الزنا ليس هدر فهو يوجب حرمة المصاهرة والرضاع”.
وقد سلك الرسول والصحابة عدة أساليب لإثبات النسب، ومنها: القرعة والقيافة. فما كان يشغل الرسول والمسلمين هو إلحاق الابن بأبيه الحقيقي بغض النظر عن كون الطفل “شرعي” أو “غير شرعي”.
وظلت تقنية القيافة أكثر وثوقا من بين باقي التقنيات التي كانت معروفة ومعمولا بها. والقيافة تعني إثبات النسب بطريق الشبه، فيقوم شخص القائف برؤية الطفل ورؤية من يراد الانتساب إليه، فيحكم بناءً على معرفته بأن هذا الطفل من ذاك الرجل أو لا. وقد لجأ إليها الرسول (ص) حين طعن المشركون في نسبة أسامة من زيد؛ وذلك لأن زيدًا كان شديد البياض وأسامة كان شديد السواد، فدعا النبي (ص) القائف وهو الشخص القادر على معرفة النسب بطريق الشبه، وهو مجزز المدلجي، ثم غطى كل جسدَيْ زيد وأسامة ولم يظهر منهما إلا قدماهما، فلما رآهما القائف قال بأن هذه الأقدام وهي أقدام أسامة من تلك، أي من أقدام زيد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة بما قاله هذا القائف، وهو مسرور جدًا بما سمع؛ فدل هذا الحديث على أنه يجوز إثبات النسب بطريق القيافة، أي بطريق الشبه.
وهناك وقائع تثبت العمل بالقيافة أو القرعة في إثبات النسب من زنا، سواء زمن الرسول (ص) أو صحابته، ومنها:
ــ قصة ملاعنة هلال بن أمية مع امرأته، وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أبصروها فإن جاءت به أكحلَ العينينِ سابِغَ الأَليتينِ خَدَلَّجَ الساقينِ فهو لشريك بن سمحاءَ، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.”
ــ ما رواه ابن عيينة، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن الشعبي، عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: أتي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- باليمن في ثلاثة نفر، وقعوا على جارية في طهر واحد، فجاءت بولد، فجاءوا يختصمون في ولدها فقال علي لأحدهم: تطيب نفسا، وتدعه لهذين؟ فقال: لا، وقال للآخر مثل ذلك، فقال: لا، وقال للآخر مثل ذلك، فقال: لا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، وإني أقرع بينكم، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد، وغرمته ثلثي القيمة، أو قال ثلثي قيمة الجارية، فلما قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: ما أعلم فيها غير ما قال علي.
أقوال الأئمة والفقهاء المؤيدة لإلحاق الابن بأبيه البيولوجي: ــ روى الإمام مالكٌ في «الموطَّإ»: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الإِسْلَامِ» أي: كان يُلحِقُهم بهم وينسبهم إليهم وإِنْ كانوا لِزنيةٍ، وقد روى عيسى عن ابنِ القاسم في جماعةٍ يُسلِمون فيستلحقون أولادًا مِنْ زِنًا، فإِنْ كانوا أحرارًا ولم يدَّعِهم أحَدٌ لفراشٍ فهُم أولادُهم، وقد أَلاطَ عمرُ رضي الله عنه مَنْ وُلِد في الجاهليَّة بمَنِ ادَّعاهم في الإسلام، إلَّا أَنْ يدَّعِيَه معهم مَنْ أمَّهاتُهم فراشٌ له وهو سيِّدُ الأَمَةِ أو زوجُ الحرَّة.
ــ كما أيده ابنُ القيِّم بقوله: «والقياس الصحيح يقتضيه، فإنَّ الأب أحَدُ الزانيَيْن، وهو إذا كان يلحق بأمِّه، ويُنسَبُ إليها، وتَرِثُه ويَرِثها، ويَثْبُتُ النَّسَبُ بينه وبين أقاربِ أمِّه مع كونها زنَتْ به، وقد وُجِد الولدُ مِنْ ماء الزانيَيْن، وقد اشتركا فيه، واتَّفَقا على أنه ابنُهما، فما المانعُ مِنْ لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِه غيرُه؟ فهذا محضُ القياس.»
ــ وقال ابن القيم: “إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ، وَحَقٌّ لِلْأَبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.”
ــ وروى الدارمي في “السنن” عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: “أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ: فَهُوَ يَرِثُهُ “.
نحن إذن، أمام وقائع الغاية منها تشريع العمل بأي وسيلة تثبت نسب الطفل لأبيه البيولوجي. ولو أن البصمة الوراثية كانت معروفة زمن الرسول (ص) لعمل بها مثلما عمل بالقيافة.
ولا يوجد مذهب فقهي يحرّم اعتماد القيافة أو القرعة في إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي. وفي هذا الإطار يرى جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية جواز إثبات النسب بالقيافة. فما الذي يمنع المشرّع المغربي من اعتماد البصمة الوراثية، التي هي أوكد وأوثق من القيافة، وسيلة علمية لإثبات النسب؟ إذ لا يوجد نص قرآني أو حديثي يمنع أو يحرّم هذا الإلحاق.
وهذا ما ذهب إليه الدكتور أحمد الخمليشي بقوله: “أنه لم يرد نص في الكتاب أو السنة الصحيحة يحرم انتساب ولد الزنا إلى أبيه، وأنه لا وجود لإجماع الأمة على ذلك الحكم. وأن سبب قول أغلب الفقه بنسب الطفل إلى أمه دون أبيه راجع إلى ثبوت البنوة بالنسبة للأم عن طريق الولادة المادية، وتعذر هذا إزاء الأب، ولو استبعد هذا السبب لكان ما ذهب إليه الفقه من التفرقة بين الأم والأب مجرد تحكم لا يقره منطق ولا مبدأ من المبادئ التي تقوم عليها أحكام الشريعة، وفي مقدمتها مبادئ المساواة في التكليف والجزاء وعدم مؤاخذة الفرد بما جناه غيره… لذا نقترح إلزام الأب بنسب ولده من الزنا إذا أثبتت البصمات الوراثية أنه ولده، ويؤمر بهذا النوع من التحليل من طرف النيابة العامة كلما وجدت قرائن كافية تبرره وجهة نظر، الأسرة والطفل والمرأة، أصول الفقه والفكر الفقهي.” ج2 دار النشر للمعرفة. 1998 ص 100.