التواصل بالماء
يقال إنه كان يتعين على رئيس ناحية في باؤول أن يحاكم عددا من اللآوُبي الذين تشاجروا، ولكن لما كان من عاداتهم التحدث جميعا في وقت واحد فقط اضطر إلى ملء أفواههم بالماء حتى يتمكن من الاستماع إلى كل منهم بدوره، وعندما كان يستمع إلى شاهد، كان يسمح له بسكب الماء من فمه. غير أن قذف المياه من أفواه المقاطعين أشاع الفوضى في الجلسة...
وديع بكيطة
يَعْرِفُ التواصل الإنساني أشكالا عدة باختلاف اللغات والثقافات، وكلما تطورت معارف أي مجموعة بشرية، تتداخل أنماط تواصلها، وبالعودة إلى الأنماط التقليدية في التواصل، يمكن أن نأخذ قبيلة اللآوبي الإفريقية كنموذج عن إدارة الحوار في حالة الخصام واللجوء إلى القضاء القبلي. “يعيش اللآوبي مشتتين في مختلف قرى السنغال وغيره… وتنظيمهم الاجتماعي مفكك تماما، ولا يقودهم رؤساء تقليديون. والشخص الذي يتمتع بينهم بأكبر تقدير يركب بغلا بينما تخصص الحمير للآخرين.
ويُعْرَفُ عن “اللآوُبي بأنهم شرسوا الطبع وإن كانوا لا يتعاركون إلا قليلا: والمشهد الكلاسيكي في هذه الحال يتمثل في توجه الخصمين، كل منهما نحو الآخر بخطوات تتيح فرصة كافية للجمهور لكي يعترض سبيلهما، بينما يجر كل منهما وراءه عصا طويلة تزن عدة كيلوغرامات، وهو يقسم ويسب بملء فيه. وبمجرد أن يتم الفصل بينهما، يعتبر كل خصم أنه قد أدى مهمته، ويكف عن الشجار، على أن يواصل السباب….
ويقال إنه كان يتعين على رئيس ناحية في باؤول أن يحاكم عددا من اللآوُبي الذين تشاجروا، ولكن لما كان من عاداتهم التحدث جميعا في وقت واحد فقط اضطر إلى ملء أفواههم بالماء حتى يتمكن من الاستماع إلى كل منهم بدوره، وعندما كان يستمع إلى شاهد، كان يسمح له بسكب الماء من فمه. غير أن قذف المياه من أفواه المقاطعين أشاع الفوضى في الجلسة. ومع أن هذه الوسيلة محدودة الفاعلية، عندما يتعلق الأمر بطباع اللآوبي، إلا أن ذلك الرئيس لم يكف بعد ذلك عن اللجوء إليها”. (شيخ أنتا ديوب. الأصول الزنجية للحضارة المصرية، ص 260).
ينتقل الماء كعنصر طبيعي إلى الفضاء الثقافي التداولي، فيكتسب رمزية، يصبح بموجبها أحد أهم مرتكزات تصفيف وتنظيم الحوار، باعتباره مانعا لفعل الكلام، من سب وشتم وقذف، الذي قد تتبادله أطراف الخصام، ورغم أنه لا يفي بالغرض منه، إلا أن استعماله كأداة للتنظيم، يعتبر من أبدع الطرق المبتكرة لذلك.
لا يصل الشجار عند اللآوبي إلى حد التقاتل، لكن التجريح والإهانة والسخرية الكلامية هي عناصر للتعويض عن أي أذى جسدي قد يصيب أحدهما، وهو أمر ينم عن مستوى معين من التحضر، رغم أن المدنية والتمدن لم تجد بعد إلا مساحة ضئيلة ضمن هذه المجتمعات، التي يرى بعض الأنثروبولوجين أنها بدائية، بما تحمل هذه الكلمة من توتر. ويرى البعض الآخر أنها تقدم في بعض أنساقها سلوكيات ما يجعلنا نتعلم منها.