تونس: قبل 25 يونيو وما بعده…
من الأمور التي عودت قلمي عليها ألا يخوض في أمور الدول العربية، وسياساتها الداخلية، إلا ما كان من باب رد البهتان، وصد العدوان، أو لبيان أمر لاح لفكري بسبب توالي الأحداث، وقد جادت الأيام على الدول العربية، من الأحداث الكثيرة، والمستجدات الوفيرة، ما الله به عليم.
ولم تكن تونس بدعا ولا استثناء من دول هذه البقعة العربية، فقد عرفت لما يزيد عن السنة، توالي الأحداث، من الأزمة التي وقعت بين رئيس الدولة من جهة، ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان من جهة أخرى، إلى قرار حل البرلمان، نهاية برغبة الرئيس في صياغة دستور جديد، وأنا في كل هذا لا تهمني الأحداث لذاتها، وإنما أريد أكشف عن غوامض لغاية في نفسي، ستدركها وأنت تقرؤ مقالي هذا، وتتجلى لك واضحة لا تشتبه.
أول ما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، يوم 25 يونيو 2021 عن إقالة الحكومة، وحل البرلمان، حتى انبرى بعض المحللين، خاصة الذين يدعمون قيس سعيد نكاية في الإخوان ومغايظة لهم، إلى الترويج إلى أن هذا حق من الحقوق التي يضمنها الدستور للرئيس، وفق مقتضيات الفصل 80، لكن السؤال الذي تجاهله المتكلمون في الموضوع، هو لماذا تأخر الرئيس عن اللجوء إلى هذا الفصل طوال مدة الأزمة؟؟، بل إنه قبل هذا التاريخ بكثير سعى إلى طرح فكرة تغيير الدستور، أو تعديله، وذلك حتى يتمكن من فعل ما يريد، وما يصبو إليه، فلماذا سعى سعيه وبلغ جهده في تغيير الدستور وتعديله، والفصل 80 يخول له حل البرلمان وإقالة الحكومة.
حتى أن أحد موظفي وزارة الداخلية السابقين ، وهو يصور مدى سوء الحال الذي بلغته تونس لأجل إطفاء الشرعية على قرارات 25 يونيو، قال: ” لولا أحداث 25 جويلة لكانت تونس مثل السيناريو السوري أو ليبي وربما أتعس من ذلك”، فمثل هذا السوء لا يتطلب صمت الرئيس، وقعوده دون إتخاذ إجراءات يخولها له الدستور لمدة تزيد عن ستة أشهر، إلا أن يكون وراء الأكمة ما ورائها، لكنه مجرد كلام يتطاير في الفضاء وينطاد بين الأرض و السماء، يخدم به توجه معين، ويدخل ضمن صناعة الرأي العام، ويدل على عدم تحري الموضوعية عند أهل الرأي والتحليل والمشرفين على الصناعة الإعلامية.
و قبل أشهر كتبت مقالا، نشرته إحدى الصحف المغربية، سميته: ” نجم من أنجم السياية”، قلت في إحدى فقراته: “، إن اللعبة الحزبية لا تصنع من صاحبها إلا أحد الرجلين، فإما أن يكون صاحب طبل أو يكون صاحب ” بندير”، فقال لي: وما تفسير ذلك، فقلت له: فإما أن يكون حزبه من مكونات الحكومة، فهو يطبل لكل ما يصدر عن الحكومة، وإما أن يكون حزبه في المعارضة، فهو ” يبندر” لكل اعتراضات المعارضة، و ذلك أن (( كل حزب بما لديهم فرحون))، بغض النظر عن صحة ما لديهم من بطلانه” انتهى.
وهذا الذي نقلت لك من مقالي القديم، هو الذي فعله بعض أنصار الرئيس، من المحللين وأهل الرأي، ولعلك تقول لي: إن هؤلاء ليسوا متحزبين، فكيف ينطبق عليهم كلامك السابق عليهم ؟؟
أقول لك: إن للتحزب معاني كثيرة، ومنها التعصب، ومتها التنظير قصد تبرير المواقف السياسية، وما فعله هؤلاء هو تعصب للرئيس، وتنظير لأجل تبرير قراراته، وذلك حفاظا على لقمة يحصلون عليها من بعض القنوات التي تخدم أجندات، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
ومن أمثلة هذا الضرب الذي حدثك عنه، وفي برنامج تلفزيوني بمناسبة الذكرى الحادية عشر لاندلاع الثورة التونسية، قال أحد الحضور، إن الديمقراطية إنما هي ليست من ثقافتنا، بل هي منهج غربي غريب علينا وعلى ثقافتنا، في تبرير ساقط وكلام فج، أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه “حق أريد به باطل”، حيث أصبحنا نرى الكل يتحولون من محللين إلى منظرين يبررون قرارات زعمائهم السياسية، وأنا على يقين، لو أن من اتخذ تلكم الإجراءات كان مخالفا لتوجه هذا المحلل والمختص السياسي، لوجدته ملأ القنوات صياحا بالتطبيل للديمقراطية، لكن لما تعلق الأمر بمن يواليه، ضرب بالديمقراطية عرض الحائط، ولم يبق له إلا أن ينادي بإقامة خلافة على منهج النبوة.
وذهب الآخر إلى التعريض بالديمقراطية، فقال: “ما نعيشه اليوم في تونس هو تفاهقراطية وسفاهقراطية”، في إشارة إلى ما كان قبل 25 يونيو، وكأني به يعيش بعد هذا التاريخ في قمة الديمقراطية.
هذا، حتى تعلم يا صاحبي، أن الموازين مختلة، وأن الشعارات الرنانة والألفاظ الضخمة، لا تزيد على أن تكون مجرد وسائل يزايد بها، وأن استعمالها يكون لزجا، وفق ما تقتضيه المصلحة، لا وفق ما يمليه الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مغربي، مختص في العقائد، والمدارس الفكرية، والاستشراق.