كرهوه حيا وندموا عليه ميتا
حين اندلعت نيران ما يسمى زورا وبهتانا ب “الربيع العربي”، واستجدت المستجدات، وغيمت المدلهمات، وطاشت العقول، واحتارت الألباب، ولم يتفرق فقط أصحاب البلد الواحد، بل تفرق أصحاب البيت الواحد، وفي كل هذا الاضطراب الحائك كتب لي في سجف الغيب أن أقابل رجلا من مصر، كان هو السبب في دخولي ميادين العلم، وساحات الفكر، وصحبني حتى اشتد عقلي وأحكم فكري، وهو ينزل عندي منزلة الشيخ والمعلم، ولو كنت شاعرا أنظم الشعر وأقرض القوافي، لما قلت فيه إلا ما قاله الرجل الأول في وصف صفيه وخليله:
همامٌ أراني الدهرَ في طيَّ برده ** وَفَقَّهَنِي حَتَّى اتَّقَتْنِي الأَمَاثِلُ
أخٌ حينَ لا يبقى أخٌ ، ومجاملٌ ** إذا قلَّ عندَ النائباتِ المجاملُ
بعيدُ مجالِ الفكرِ، لوْ خالَ خيلة ً ** أَرَاكَ بِظْهَرِ الْغَيْبِ مَا الدَّهْرُ فَاعِلُ
وفي هذا الخضم الهائل، والبحر الهائج، قال لي جملة سكنت ذهني على طول المدى، قال: ” إن المصريين كرهوا السادات حيا وندموا عليه ميتا”، وحين نتأمل في دول الربيع العربي، وبعد عقد من الزمن عليه، لا نجد لسان حال أهلها ومن دعوا إليها، إلا معبرا عن ندمهم، إلا من كان منهم مكابرا أو جاهلا، وكلهم يحن للعهد القديم، حنين من بلغ به العمر عتيا إلى شبابه وأيام صباه.
ومن يتابع ما يقع في تلك الدول يعرف جيدا ما أرمي إليه، فمن تونس التي يحاول كل طرف فيها، أن يمسك بعنان الحكم، ويقهر البقية، فترى كل واحد منهم يعمل المكائد للآخر، وينصب له الفخاخ، وكل واحد يريد أن يستبد برأيه في تأويل الدستور، وهم في الأصل ثاروا لأجل تغيير هذا الوضع فلم يزدادوا فيها إلا غرقا، مرورا بليبيا، التي تفرق أهلها في البلاد واستحكم فيهم الفساد، وهم بين كل هذا وذاك تتنازعهم الأهواء المختلفة، وتتجاذبهم المصالح المتضاربة، حتى إذا ما انتهوا إلى الانتخابات، رأيتهم جميعا يعملون ليتم تأجيلها، وهم جميعا ينكرون تأجيلها، فأي هبل وخبل هذا؟؟، وأما سوريا، فلا داعي لنمر عليها، فحالها يدمي القلب.
وقد ارتفعت الأصوات وبحت الحناجر ساعتها، ونحن ننبه إلى هذه العواقب، فلم نترك حجة إلا قدمناها، وبينا لهم ما ستؤول إليه الأمور بعد كل هذا، وذكرناهم بالأحاديث النبوية الكثيرة، وكلام العلماء المتوافر في مثل هذه النوازل، لكن لم نجد منهم إلا كيل الاتهامات الباطلة، ورميينا بالتخلف والرجعية، ثم لم تكد تمر العاصفة ويكشف ما تحت الغبار، حتى حصل ما حذرناهم من حصوله، من تهديم الديار وقتل الأبرياء وتشريد الأطفال، وأثبت الواقع أن المنهج الذي سطر في الأحاديث النبوية، كان هو الأنجع، وأن من اتبعه كان أرجح عقلا وأحصف رأيا. كنا نعلم أن السلطة الزمنية، مهما حدث ومهما كان، لن تسلم للأمر، وأن الخسائر التي ستنتج أكبر من أي مكاسب، وهذا ما كان، ولا ندعي علم الغيب، ونعوذ بالله أن ندعي ذلك، ولكن هذا ما أخبرتنا به الأحاديث النبوية الشريفة الكثيرة، وهذا ما قرره العلماء في تأصيلاتهم، فخالفنا كل التيارات ولم نتبع الموجات، و صبرنا حتى فاء الزمن علينا بإنصافه لنا، وأظهر الواقع للجميع أننا كنا على حق، وعلم كل من لديه شيء من عقل صحة ما ذهبنا إليه، وما أبلغ قول علماء الإسلام: “ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان”، وأبلغ منه وأقوى دلالة قول عبد الله بن المبارك:
لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل ** وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مغربي، مختص في العقائد، والمدارس الفكرية، والاستشراق.