نعيمة غرافي تقرأ “شروط العشق” للشاعر عثمان ناجي (1/2)
عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، يصدر للشاعر عثمان ناجي ديوان “شروط العشق” في طبعته الأولى، ومجموع قصائده ثمانية وعشرون قصيدة تتفاوت في حجمها ما بين الشذرة والقصيدة التي تغطي صفحتين من القطع المتوسطة، تنفرد كل منها بعتبة خاصة ترد بصيغة النكرة، كما تتوزع على تيمات مختلفة أو روافد متعددة لتصب في نهر واحد يفضي إلى مصب بحري مشترك هو بحر “العشق” بشروطه الوجدانية التي شغلت ذاكرة عشاق الحرف والكلمة منذ الأزل،،،
ولا غرو أن ينتقي شاعرنا عنوان إحدى قصائده عتبة للديوان كله؛ ف”شروط العشق” عنده عشرة أو أكثر، يدعو قارئه إلى انتقاء الأجمل منها تماما كما ننتقي قصص أطفالنا، والأجمل في كل عشق ما يظهر كسيدة جسور غير مهادنة
“تجتاح الحلم كقبيلة تتر” ص ١١
لكنها شفافة رومانسية
“تنصت لصرخات الشمس
حين تغرق مساء في البحر” ص ١١
هي امرأة عاشقة تدندن تراتيل الحب، “ممشوقة كحروف العلة”، كاسرة بعينيها ليلا طويلا ،شاردة ،متموجة ما بين أفراح وأحزان، ما بين تنهيدة وترنيمة، مغرمة بالعواصم القديمة، امرأة صاخبة راقصة تزهر بين أناملها “الأشعار قبل حلول الربيع” ص١٢.. وليست هاته المتمردة غير “حرية الانسان”… العشق في صلبه حرية ، و بكل أبعاده لا يحب القيود، العشق انطلاق، تحليق وغوص، تمرد ومغامرة ، افتتان وجموح، العشق حلول… إن هذه القصيدة المنتقاة صورها بعناية فائقة تعتبر لؤلؤة هذا العقد الشعري كله، فهي
“جميلة مثل قصة أطفال
تبدأ ولا تنتهي”
و”تنفجر شغفا
كبدء للعالم جديد”ص١٢
وتغدو الأنثى في هذا العالم قصيدة وجدانية في “استثناء”
حين يجعلها الشاعر غيمته الوحيدة والتي
“حين تمطرين
أشرق
أزهر
يحاصرني الحنين”ص٤٤
وكل النساء نجمات غير أن حبيبة الشاعر أجملهن ولوحدها توضع بكفة والكون والشعر وأنا الشاعر بكفة أخرى..
وتتناص شذرة “ثمالة”مع “استثناء” لتحققا بكثافتهما الشعرية ما لم تحققه أية قصيدة اخرى في المجموعة:
خمر الخلق في كأس
وخمري أنا دون الخلق
أنت
وذنبي أنا
لا ردة
بل عشق
من أخمص القلب
إلى ناصية الرأس” ص٤٥
وهكذا يشرب الشاعر المذنب عشقه/خمره حتى الثمالة لتنفتح عوالمه الشعرية على أشعار المتصوفة والعشاق الخالدين ، وتتجسد قمة العشق في هذه الشذرة الفريدة في الديوان :
“أنا أنت
أحبك
للناس عيد
ولي أنا: أنت”٤٨
وتنفتح نافذة المقهى في قصيدة “نافذة القلب” على همس الروح وعلى عطر الحبيبة؛يرى الشاعر السماء بلون عينيها ويغدو لفنجان القهوة طعم قبلتها… من نافذة المقهى تنساب ترنيمة العاشق المتعبد ل”تشطب الوجوه والزمان”، خلف النافذة يتراقص القلب وظلال الجسد الموشوم بالحب من أثر البوح.. ومن نافذة القلب
“لا أحد يطل
ألا أنت دون سواك” ص ٥٠
كما يحتفي الشاعر بقصيدة “مطر” احتفاء خاصا لتعبر عن صفاء الروح وتجردها من كل ما يثقل كاهلها لحظة سقوط المطر وانتشاء الأرض بقطراته، وفي لحظة اتحاد السماء بالأرض يدعونا الشاعر الى الجلوس خلف النافذة بعد التجرد من معاطفنا الشتوية، لنطل من خلالها على ساحة القلب، وننشد الراحة في رحابها؛ يدعونا الى محاورة الروح بعد انتزاع المسامير المدمية من ذاكرة الطفولة، ومن خلال هذه الاطلالة لنا أن نكتب الكلام الذي لا يفهمه غير العشاق، ولنا أن نقرأ الاشعار ونحلم ونسافر من غير جوازات سفر ..إن قصيدة “مطر” دعوة الى احتفاء جديد بالكون ونسيان الوقت، وشطب “كل وعود الصيف العابرة” ص ١٧
ولأن العشق حالة وجدانية بامتياز فإن الحبيبة لا تتوانى عن طرح السؤال عن ماهيته بغنج وانتظار تراوغ به عشق الآخر، فتكون الاجابة شاعرية شعرية هذه العاطفة الراقية جدا :
” هو رسالة مكتومة تسافر عبر الزمن
هو قهوة الصباح
رفقة سواد جريدة
وذكرى تقاسيم حزينة
تختفي أبدا
كي تلوح في ثنايا القصيدة ” ص ٣٩
ولكن الحبيبة ترحل كما كل الأشياء الجميلة ،ترحل بعدما احرقت الخيام،، ولا يبقى منها غير طيف يزور الشاعر خلسة بليله الطويل، هي الطيف الراحل صوب الشمال كما سرب النوارس، تحضر لتذكره بحب قديم، حب مترنح ما بين سماء وأرض والمرسل قبلة سرية تترك أريجها على وجه صباحات لا تدوم ولكنها تؤجج نيران الكتابة في صدر شاعرنا لينشر حروفه المائية الشفافة و يقتفي بقية “عطرها المسائي المتسكع في المكان” ص٤٠، بقية كلمات تصهل كخيول نافرة، بقية حروف تراوغ الذاكرة،، وهي كلها بقايا قصة حب اولى مستحيلة، ولا يتبقى للشاعر غير
“حقل ياسمين
وبراعم بألوان
تقاوم الشتات
وتزهر قبل الأوان” ص٤١
وبعض صور غامضة تتساقط في الذاكرة، تتهاوى كشمس متعبة في حضن المساء… هي صور متقاطعة أسماها الشاعر “رؤى” كأنها شلال أحلام وأوهام، صور هامسة حينا وغاضبة أحايين كثيرة، صور تعلن أن: بقية العمر وكل وعود الحب قد تزهر حدائق من هباء” …
يتبع