المسيرة الخضراء المظفرة: أمجاد وأبعاد
تعتبر المسيرة الخضراء المظفرة حدثا بارزا في تاريخ المغرب المعاصر، ويشكل الاحتفال بذكراها في السادس من نونبر من كل سنة، لحظة قوية لاستحضار الأمجاد التي طبعت هذه الملحمة التاريخية الخالدة وغير المسبوقة، والتي ستظل في الوقت ذاته، منقوشة بمداد من ذهب في الذاكرة الحية لمن عاشها أو سمع عنها من المغاربة. وبالنظر لما تكتسيه المسيرة الخضراء من أهمية تاريخية، سنحاول، ونحن نحتفل بذكراها السادسة والأربعين، أن نسلط الضوء عن جذورها التاريخية، وعن الظروف والأجواء التي واكبتها وجعلت من مهندسها ومن المشاركين فيها أبطالا قوميين نعتز بهم. كما سنسعى إلى إبراز أبعادها التاريخية والمجالية.
سياق عالمي
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الدول الاستعمارية قد أنهكت قواها وتبددت وأصبحت غير قادرة على إحكام سيطرتها على إمبراطورياتها الشاسعة. وعلى الجهة الأخرى، واصل الشعور القومي نموه وتسربه إلى أوصال الشعوب المستعمرة، فتشكلت عبر العالم حركات تحررية طالبت بتطبيق مبادئ المساواة والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي ساهم بالفعل في حصول العديد من دول العالم على استقلالها بشكل ودي/ سلمي تارة وبصراعات دموية عنيفة تارة أخرى.
لم يكن المغرب في منأى عن هذه التطورات، بل حاول في العديد من المناسبات فتح قنوات الحوار والتفاوض مع إسبانيا بشأن إيجاد حل سلمي لإنهاء الوجود الإسباني في أقاليمنا الجنوبية، غير أن لغة الحوار لم يسبق لها أن كانت جزءا من قاموس الجنرال فرانكو، وهو ما تعززه القولة الشهيرة للزعيم النازي أدولف هتلر الذي حاول لأربع ساعات متواصلة من التحاور العقيم، إقناع فرانكو بالسماح للجيوش الألمانية بالوصول إلى إفريقيا الشمالية عبر إسبانيا، حيث قال “أفضل الذهاب إلى طبيب الأسنان للعلاج بدون تخدير، على أن أذهب للتفاوض مع الجنرال فرانكو.”
في يوليوز 1975، وبدون سابق إنذار، قررت إسبانيا قبول نقل السيادة للصحراء، فاحتج المغرب على ذلك وعرض القضية على محكمة العدل الدولية بلهاي ، نتيجة لذلك، وجدت إسبانيا نفسها مضطرة لانتظار الرأي الاستشاري للمحكمة التي أكدت في 16 أكتوبر بأن “الأراضي الصحراوية التي احتلتها إسبانيا لم تكن أرضا خلاء، لا صاحب لها” كما أقرت بوجود “روابط قانونية وروابط ولاء بين الصحراء والمملكة المغربية”، ومعنى ذلك أن سكان هذا الإقليم يدينون بالولاء والطاعة لملوكهم المغاربة.
كانت هذه الفترة حساسة ومحفوفة بالمخاطر، فبالإضافة إلى مراوغات الإسبان، لم تكن الجزائر بذلك الجار الذي يؤمن جانبه رغم محاولات قائد ثورتها “هواري بومدين” طمأنة المغرب بكون بلاده غير معنية بعودة الصحراء إلى المغرب، هذه الوضعية حتمت على المغرب أن يخرج إلى حيز الواقع، وأن يذهب بنفسه إلى صحرائه ما دامت هذه الأخيرة لا تستطيع القدوم إليه.
قرار المسيرة
كان قرار إجراء مسيرة سلمية تجاه أقاليمنا الجنوبية قد اتخذ بالفعل قبل شهرين من موعده، وشرع الملك الراحل “الحسن الثاني” مهندس هذه الملحمة، في الإعداد لما تتطلبه من أغذية ومياه وآليات، كما تم وضع مخطط شامل وتصور واضح لمعالمها، حيث تمت تعبئة 10 آلاف من الأطر للسهر على كل الجوانب التنظيمية والتأطيرية، و7813 شاحنة بالإضافة إلى 470 من الأطباء ومساعديهم. كانت نسبة الولادات في المغرب خلال هذه المرحلة تقدر بحوالي 350.000 طفل في السنة، لذلك تقرر حصر عدد المتطوعين في هذا العدد، كما لو أنه توظيف لحصاد عام يعطيه الله للمغاربة ليسترجعوا به أرضا لم ينسوها قط، ولو أن مجال التطوع ترك مفتوحا، لضمت القائمة أزيد من مليوني متطوع على أقل تقدير.
في 6 نونبر، دقت ساعة الحقيقة واندفع المغاربة نحو الجنوب وفق نظام المسيرة الذي احترم بدقة، حاملين أعلاما خضراء وألوية حمراء تتوسطها نجمة خضراء خماسية الفروع ورفع الكثيرون كتاب الله، فاخترقوا وتوغلوا على شكل كتل بشرية متراصة وفي نظام محكم بديع، الأرض المتنازع عليها وكانوا جميعا يؤمنون بأن أسلحتهم هذه، أقوى على التحرك والالتفاف من الفرق العسكرية المدرعة. وفي خضم هذه الأجواء المليئة بالحماس والمفعمة بالوطنية، تقاطرت الأخبار المؤكدة على بداية المفاوضات التي أعقبها توقيع الاتفاق الثلاثي بعد أسبوع بين إسبانيا من جهة، وبين المغرب وموريتانيا من جهة ثانية، ونص على إنهاء الوجود الاسباني في الصحراء قبل 28 فبراير 1976.
إن الصحراء أرض مغربية بقوة التاريخ وبحكم الجغرافيا، من هذا المنطلق لم يتردد الملك الراحل الحسن الثاني في قبول إجراء الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية على هامش أشغال مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية المنعقد في العاصمة الكينية نيروبي في 26 يونيو 1981. واليوم لازال المغرب واضحا في مواقفه بخصوص مغربية الصحراء ومؤمنا بعدالة قضيته ومشروعية حقوقه.
وإذا كانت المسيرة الخضراء- في الماضي- أحسن تعبير عن التلاحم الصلب بين العرش والشعب، ولبنة مهمة في بناء صرح الوحدة الوطنية واستكمال وحدتنا الترابية، فإن مبادرة الحكم الذاتي- اليوم- تعد بحق أفضل حل لإنهاء مسلسل النزاع حول الصحراء، في إطار الشرعية الدولية والاحترام التام للوحدة الوطنية والترابية للمملكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذاكرة ملك، “الحسن الثاني، ط2، 1993.
كتاب التحدي ” الحسن الثاني” ط1، 1976
سلسلة دفاتر الصحراء “الصحراء المغربية والمشروعية”، العدد التاسع، فبراير 1985.
مجلة دعوة الحق “ملف حول المسيرة الخضراء، نونبر 2015.