هل هي نهاية القوة الناعمة الأمريكية؟
هذا المقال لأستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية بالمعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، دافيد سيلفان، نشر على الموقع الإلكتروني السويسري “Le Temps” في إطار تتبع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وحتى قبل أن تظهر النتائج التي أوصلت بايدن إلى البيت الأبيض الأمريكي.
أهمية المقال، تبرز في طرحه مسألة “النفوذ الأمريكي”، و”القوة الناعمة”، في وجهة نظر هامة، ننشرها على “أضواء ميديا”
باختراعه لمفهوم “القوة الناعمة”، ابتكر جوزيف ناي اسماً لظاهرة بدأت دراستها منذ عصر غرامشي ومانهايم على أقل تقدير: أي طريقة ممارسة السلطة بالتراضي لا بالإكراه.
وفي كتاب حمل عنوانا معبراً للغاية “وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية ” (Bound to Lead)، أعرب ناي عن قلقه من كيفية أنّ سلطة الولايات المتحدة على البلدان الأخرى تنبع من حقيقة أن نخب تلك البلدان تريد نفس ما تريده نظيرتها الأمريكية. والأمر ليس مجرد مسألة قيم سياسية مشتركة، بل أيضا انفتاحا على الحجج والبراهين الأمريكية، خاصة بعد الانغماس في الثقافة الشعبية والأكاديمية الأمريكية.
ومجازاً، يمكن القول بأن الشخصيات الرئيسية المؤثرة في هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن دين أتشيسون ودوايت أيزنهاور بل إيلفيس بريسلي وجيمس دين.
بالطبع، القوة الناعمة لا تعني أن الولايات المتحدة يمكنها أن تفعل ما تريد. ففي مناسبات عديدة، أثناء الحرب الباردة وبعدها، جرى تعديل خطط الرؤساء الأمريكيين، من كلا الحزبين، بشكل جذري أو حظرها ببساطة من قبل شركائهم الأوروبيين. ولكن حتى في أوقات الجدل القوي، مثل حرب العراق عام 2003، تمكّنت واشنطن من بناء “تحالفات المتطوعين”.
الاضطراب الكبير
على ضوء ما ذكر، كان وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بمثابة اضطراب كبير. فهجماته على حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وحماسه للحروب التجارية ومديحه لفلاديمير بوتين: كل هذا يعني، برأي العديد من المراقبين، إلقاء القوة الناعمة الأمريكية في سلة المهملات. والعدد القليل من المثقفين والفنانين الذين دعموا الرئيس، من وجهة النظر هذه، هو مؤشر آخر على أن أمريكا لم تعد تقود الركب أمام الأوروبيين.
ولهذا السبب، فُسّرت زيارة ممثلي النخبة الأمريكية لمناسبات مثل مؤتمر ميونيخ للأمن أو المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، على أنها ضمانة يقدمها منفيون سياسيون. وكان يعد هؤلاء بأن كل شيء سيعود إلى طبيعته بعد الانتخابات القادمة. وهذا هو سبب الأمل الكبير لهذه الأوساط بأن جو بايدن سيفوز بها.
ومع ذلك، يحظى دونالد ترامب – والكثير ممن حوله – بتأثير كبير في أوروبا، لا سيما بالمعنى الأصلي للتراضي الذي طوره جوزيف ناي. إذ أنّ المزج بين القومية الاقتصادية ومعاداة الأجانب وانعدام الثقة في النخب الحاكمة يشكّل اقتراحاً جذاباً لقادة مثل فيكتور أوربان أو جيورجيا ميلوني، أو لمؤيدي “اليمين البديل” وأتباع حركة كيو أنون (QAnon). حيث صار هناك محرك بديل لنقل الطاقة الناعمة: شبكة (Breitbart) الإخبارية وموقع 8 شان و(Gab) بدلاً من متحف الفن الحديث (MoMA) وموسيقى (Motown). قد يخسر دونالد ترامب الانتخابات، لكن هذه الأفكار ستستمر.
وعلى الشاطئ الآخر من أرخبيل اليمين المتطرف المعاصر هذا، نجد عدداً لا يحصى من الأفكار وأشكال التعبئة البعيدة كل البعد عن أفكار النخب الأمريكية المنفية. فعلى سبيل المثال حركة (MeToo#) و(Black Lives Matter)، وكيفية انتشارها خارج الحدود الوطنية. حيث يجري تكييف هذه التيارات بشكل شبه فوري لتناسب السياسيين المحليين والشرطة والفرق الرياضية وحتى التماثيل. وكون معظم هؤلاء النشطاء تقريبًا من المناهضين الشديدين لترامب، لا يلعب هنا سوى دوراً ثانوياً في تأسيس هذه الحركات.
“نزع الصبغة الأمريكية”
باختصار، إنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تشهد نهاية القوة الناعمة الأمريكية ولا عودتها، بل ستشهد حالة من “نزع الصبغة الأمريكية” عنها. فحتى لو فاز جو بايدن، ستواصل بعض المجموعات نشر أفكار وأشكال للمنظمات فوق الحكومية التي سينتشر صداها بقوة في جميع أنحاء العالم. لكن هذا الصدى يعني أن ما سينتشر لن يكون أمريكياً بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد لا يكون دونالد ترامب هو من حفر قبر القوة الناعمة للولايات المتحدة، بل مارك زوكربيرج.