يسحق الوطن الفقراء سحقا…!
كل يوم، يواجه الفقراء الحياة بخيار يتأرجح بين الموت والمهانة.
بين النوم دون عشاء، ومغادرة البيت دون فطور، والعودة مساء دون مال وأحيانا دون كرامة، وقبول العمل تحت أي شرط، تمر أيامهم وقد تنتهي أيضا بكامل الأسى والألم.
حينها، يسقط الفقراء الكادحون جثثا هامدة، بمناسبة عمل صغير، مضن ولا يحمل اسما واضحا.
تارة، هم مياومون، وتارة أخرى هم عمال فلاحيون أو صناعيون، لا فرق.
أما نهاياتهم، فصغيرة أيضا ولا بطولات فيها.
سيارة نقل مهترئة تلفظهم عند منعرج خطير، نار ملتهبة تأكل أجسامهم داخل معمل قرر صاحبه أن يقفل أبوابه لمد يد العون لعزرائيل حين يقرر شواءهم مثل أي سمك رخيص، اختناق داخل شبه منجم بمناسبة البحث عن كيلوغرامات من الفحم الحجري يبيعونها حتى يتمكنوا من حمل قفة صغيرة بداخلها زيت وشاي وخبز، لا غير.
يسحق الوطن الفقراء سحقا.
يسلمهم الى جزارين دمويين يبحثون عن الغنى والمال، ولا يرون في نساء بجلباب رخيص وأحلام بسيطة سوى آلات دون روح، دون اسم، دون اي شيء، مستعدة لجني التوت أو الحنظل، أو حياكة الملابس أو الأكفان، أو تجميع منتوج لا يملكن ثمنه، لا فرق، مقابل الفتات.
في اخر اليوم، يتسلمن دراهم تبقيهم، ومن يعيلون، ضمن لائحة الأحياء.
كتب الروسي أنطون بافلوفيتش تشيخوف، وهو من أعظم كتاب القصص، قصة معبرة عن خادمة اختار لها اسم يوليا فاسيليفنا. من شدة خوفها من السيد، لم تطالب براتبها لشهرين. حينها، قرر مشغلها أن يلقنها درسا، فحاسبها بدهاء فيما تقبض حتى جعل أجرتها تختفي بالكامل، احتسب لها الأكل والشرب، تقصير أفراد العائلة وحتى مرضهم، ليجعلها تقبل أن تشتغل مجانا.
قبلت يوليا ولم تناقش البتة.
تعجب السيد وطرح عليها سؤالا حكيما:
لم أنت عاجزة لهذه الدرجه، لم لا تحتجين؟
عاش تشيكوف وشخوصه في القرن التاسع الميلادي في روسيا غير روسيا اليوم، وفي عالم غير عالم اليوم.
فتيات ونساء طنجة لم يمازحهن مشغلهن في رواتبهن. لم يصرح بمكان عملهن، لم يضمن لهن سلامتهن. أرسلهن للعالم الآخر ببضع أمتار مكعبة من الماء، ليغادرن قبوا مظلما وتعيسا في أكياس سوداء بائسة، بلا تحية إكبار ولا حتى شريط أسود رمزي في قنوات وطنهن.
هلكن غرقا والسلام.
ما أتعس فقراء بلدي، وما أتعسني الليلة حين لا أملك سوى كلمات أتقاسمها مع من أراد، فيها الحزن والغضب والمهانة.
خادمة الكاتب تشيكوف، يوليا، لم تحتج لأنها عاشت في القرن التاسع عشر، حيث حقوق الإنسان، وحق الاحتجاج، والديمقراطية والمساواة، وربط المسؤولية بالمحاسبة وكلام كبير أخر لم يكن قد ولد بعد.
لا قدرة لي لطرح سؤال تشيكوف على من هلك في طنجة، أتوجه لمن لا زال على قيد الحياة، وينتظر راتبا سمينا في آخر الشهر مقابل حماية العمال والعاملات ومراقبة ظروف العمل واتفاقيات الشغل:
لم لا تستقيل الليلة؟