سياسية

هكذا انفضحت خطط البيجيدي

كل المحطات التي خاض حزب العدالة والتنمية معاركه الشرسة خلالها لمناهضة مطالب الإصلاح والتغيير (خطة إدماج المرأة، الدستور، الإجهاض، مشروع القانون الجنائي..) كان يفتخر بخوض تلك المعارك “دفاعا عن ثوابت “الشعب المغربي، ودفاعا عن “الهوية الإسلامية” للمجتمع.

وحتى حين ترأس الحكومة، تبنى كل القرارات التي استهدفت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشغيلة المغربية وعموم المغاربة (تحرير أسعار المحروقات، تمديد سن التقاعد، تجميد التوظيف والترقيات، إلغاء الترقي بالشهادات الجامعية وبالأقدمية، التشغيل بالتعاقد..).

كان البيجيدي يدرك جيدا أن الريع السياسي أفسد الأغلبية كما المعارضة؛ لهذا لم يخش ردات الفعل الحزبية أو النقابية أو الجمعوية إزاء القرارات المجحفة التي اتخذها أو يتخذها. قالها بنكيران داخل قبة البرلمان حين رئاسته للحكومة أنه “تيتبورد” على البرلمانيين، وأنه سيمرر قانون التقاعد حتى ولو احتجت عليه  النقابات “بشعب الصين”. كما لم تترك قيادة البيجيدي فرصة للتأكيد على أن برنامجها السياسي هو برنامج الملك.

اليوم، وبعد توقيع الأمين العام للبيجيدي ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، على التصريح المشترك بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، يتنصل الحزب، بكل مؤسساته، من  كل مسؤولية عن التوقيع وعن استئناف العلاقات مع إسرائيل؛ إذ جاءت تصريحات العثماني الأخيرة تكرس لامسؤولية الحزب الدستورية والوطنية والأخلاقية. ذلك أن الحزب وحركته الدعوية ظلا يروجان لوقوفهما وراء الملك ودعم كل قراراته ومبادراته؛ لكن ما أن قرر جلالة الملك استئناف العلاقات مع إسرائيل وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للوطن، خصوصا بعد القرار التاريخي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، حتى سارع الحزب والحركة إلى النأي بأنفسهما عن أية مشاركة أو مساندة لقرار استئناف العلاقات مع إسرائيل.

هكذا جاء بلاغ حركة التوحيد والإصلاح رافضا ومستنكرا: “تأكيدَ موقف الحركة الرافض والمستنكر لكل محاولات التطبيع والاختراق الصهيوني، واعتبارَ المكتب التنفيذي ما أقدم عليه المغرب، الذي يرأس لجنة القدس الشريف، مِن تدابيرَ مشارٍ إليها أعلاه، تَطوراً مؤسفاً وخطوةً مرفوضةً”. لم تكتف الحركة “بالرفض” و”الاستنكار”، وإنما انتقلت إلى التحذير “من خطورة هذه التدابير المعلن عنها ومآلاتها السلبية، والتي تضع بلادنا ضمن دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني وتفتح الباب أمام اختراقِه للمجتمع والدولة وتهديدهِ لتماسك النسيج المجتمعي واستقرار الوطن ووحدته”.

هكذا اختفت فجأة دعاوى ومزاعم “المساندة المطلقة” لجلالة الملك لتطفو على خطاب الحركة لغة الرفض والاستنكار والاتهام لأعلى سلطة بالبلاد “بفتح الباب” أمام “الكيان الصهيوني” “لتهديد تماسك النسيج المجتمعي واستقرار الوطن ووحدته”. ضمنيا وعلنيا الحركة، وبدون استحياء أو استحضار لرمزية الملك ومكانته في وجدان المغاربة، تتهمه “بالتآمر” على الوطن.

وإذا كانت حركة التوحيد والإصلاح اختارت لغة التخوين والاستنكار هذه، فإن حزب العدالة والتنمية اختار التنصل من أي مسؤولية سياسية أو دستورية عن توقيع التصريح المشترك بين الدول الثلاث (المغرب، أمريكا وإسرائيل). فبكل جبن سياسي صرح الأمين العام للبيجيدي بأنه لم يكن يمثل الحزب لحظة التوقيع: “موقعي كرئيس حكومة، كانت عندي مسؤولية، وهذه المسؤولية أتحملها بوصفي رئيس حكومة المملكة المغربية”.

أكيد، لا يستقيم منطق اللامسؤولية هذا الذي عبر عنه السيد العثماني مع نص الدستور في فصله 47 الذي ينص صراحة على “يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”. فرئيس الحكومة، سياسيا ودستوريا، يمثل حزبَه في كل الأنشطة الرسمية. أما لغة النفاق ولعبة المكر التي يوظفها السيد العثماني حتى يخفف عن نفسه وعن حزبه شدّة “الحرج” وحِدّة الانتقاد التي صار الحزب موضوعا لها من طرف جبهة مناهضة التطبيع، فلا تجدي نفعا ولا تعفيه من كامل المسؤولية.

ذلك أن الدستور المغربي حدد الإطار السياسي والحزبي لرئيس الحكومة لا يمكنه التنصل منهما، ولم يسمح له بلعب دور “موظف في الدولة” والاختباء خلفه لتبرير أفعاله. فحين وقع السيد العثماني على التصريح المشترك، إنما وقع بصفته السياسية والدستورية، أي بصفته رئيس الحكومة المغربية، وهي الصفة التي تلازمها قطعا الصفة الحزبية التي أهلته لتولي هذا المنصب.

لهذا، وأي تنصل من هذه الصفة الحزبية والدستورية إنما هو جبن سياسي يكشف عن حقيقة الحزب بكل أذرعه الذي يلقي بكل المسؤولية على جلالة الملك ويعفي نفسه منها . علما أن قرار جلالة الملك يجمع بين الدفاع عن المصلحة العليا للوطن والدفاع عن مصلحة الفلسطينيين وحقهم في إقامة دولة مستقلة لهم. والتعلل بكون “السياسة الخارجية يصوغها ويشرف عليها ويتخذ القرار فيها الملك محمد السادس؛ وهو مجال سيادي يخضع مباشرة لتوجيهات الملك. ونحن نساند الملك في ذلك” وفق ما جاء في كلام السيد العثماني خلال اللقاء التواصلي مع الكتابات الإقليمية والكتّاب المحليين والهيئات الموازية بجهة سوس ماسة، إنما هو خذلان وجبن وتنصل من المسؤوليات السياسية والدستورية والأخلاقية . فمنطق “فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”، منطق فاسد دينيا وسياسيا لأنه قائم على الغدر والخذلان . والسيد العثماني ومعه حزبه حين يتبرآن، بكل خسة، من قرار التوقيع على التصريح المشترك، ويحملان كامل المسؤولية لجلالة الملك، إنما يخلاّن بالمسؤولية الدستورية وبالأخلاق السياسية.

طبعا، الملك يمثل ضمير الشعب المغربي الذي عبّر، في غالبيته المطلقة، عن التأييد الكامل لقرار استئناف العلاقات مع إسرائيل، ولا يحتاج لتأييد من البيجيدي أو مباركة حركته الدعوية . لكن الأخلاق السياسية تقتضي من رئيس الحكومة وحزبه إما الموافقة على قرارات جلالة الملك هذه والانخراط في أجرأتها ، أو إعلان الانسحاب من الحكومة والتفرغ لمعارضة تلك القرارات. أما الاحتماء بقول “العامة”: “لا يمكن للرّجل الثّاني في الدولة أن يُخالف الرجل الأول في الدولة” فهو استخفاف بالدستور واستهزاء بالشعب.

أيا كانت مراوغات البيجيدي وشطحات قيادته، فهو مسؤول عن كل القرارات التي تتخذها الحكومة والمبادرات التي تنخرط فيها الدولة المغربية. وكل محاولات الالتفاف للتنصل منها ومن تبعاتها إنما يفضح مخططات الحزب الرامية إلى استهداف رموز الدولة ومؤسساتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock