هزيمة بقوة الصدمة
تشكل محطة انتخابات 8 شتنبر 2021 لحظة تاريخية مهمة في الحياة السياسية للمغرب من حيث نتائجها ودلالاتها؛ ذلك أن الناخبين المغاربة، تصرفوا بكل وعي ووطنية متحررين من أي تأثير ديني أو إيديولوجي، فقرروا وضع حد لتجربة الإسلام السياسي في تدبير الشأن العام، سواء على مستوى الحكومة أو المجالس الترابية. لقد سبق ومنح جزء مهم من الناخبين أصواتهم لفائدة مرشحي حزب العدالة والتنمية الذي تمكّن من تصدّر نتائج الانتخابات في مناسبتين متتاليتين؛ ومن ثم قيادة الحكومة على مدى عشر سنوات. دعم الناخبين هذا أصاب قيادة البيجيدي بغرور لا حدود له اعتقدوا بسببه أنهم صاروا “قوة لا تُقهر”؛ بل باتوا، قيادة ووزراء ومنتسبين للحزب، يتصرفون كأنهم الحكام السرمديون للمغرب، وأن الشعب ولاهم أمر دينه ودنياه وتنازل لهم عن سيادته. إذ لا يخلو حديث أي قيادي من قيادة الحزب ولا عضو من أعضائه من عناصر الاستقواء “بإرادة الشعب” و”صناديق الاقتراع” كلما واجه خصما سياسيا أو انتقادا لسوء تدبير الشأن العام. لقد أساء البيجيديون قراءة الدستور كما أساؤوا فهم “الشرعية الانتخابية”، مما جعلهم يتصرفون خارج الضوابط الدستورية والأعراف السياسية.
تمادي في الغرور والاستئساد
بلغ هذا الغرور والاستئساد ذروته عندما تم تكليف بنكيران بتشكيل الحكومة خلال الولاية الثانية ففشل بسبب “طغيانه” وعجرفته وظل منعزلا ببيته سبعة أشهر تاركا البلاد بدون حكومة ومصالح المواطنين معطلة.
إن الشرعية الانتخابية ليست توقيعا على بياض يسمح بتغليب الذاتي/الحزبي على مصلحة الشعب والوطن كما تتصور قيادة البيجيدي والأمين العام السابق بنكيران الذي قال أمام أعضاء حزبه: “الناس استأمنونا على أصواتهم كي نكون في رئاسة الحكومة، لهذا وجب احترام هذه الإرادة كدولة”. لقد جعل بنكيران نفسه فوق الدستور وحاول فرض إرادته على الجميع (ملكا، أحزابا، شعبا ودولة). وتبعته في هذا الغرور والطغيان شبيبة الحزب ببلاغ تشدد فيه على ضرورة “الاحترام الكامل والمبدئي للمقتضيات الدستورية التي لا تحتمل تأويلا سوى أن الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات البرلمانية هو المفوض شعبيا والمكلف دستوريا بتشكيل الحكومة”. ومضمون هذا المواقف/الرسائل: إما بنكيران رئيسا للحكومة أو لا أحد، وليذهب الوطن للفوضى والخراب. ظل حزب العدالة والتنمية يتصرف بمنطق الحزب الوحيد الذي يملك شرعية القرار والتقرير في مصير الشعب ولا سلطة غير سلطته في إدارة الشأن العام.
عقيدة البيجيدي لا تسمح له بقبول الاختلاف أو التناوب
فعقيدته الإيديولوجية لا تسمح له بقبول الاختلاف أو التناوب على تدبير الشأن العام ولا حتى سحب ثقة الناخبين منه. فالحزب انخرط في العمل السياسي وخاض غمار التنافس الانتخابي بعقيدة “التمكين” والاستحواذ على السلطة والدولة وليس بخلفية ديمقراطية تؤمن بتنافس الأحزاب والبرامج الانتخابية وبحق الشعب في اختيار من يسير شؤونه العامة وفق الآلية الديمقراطية. لهذا لم تتخيل قيادة الحزب أنه سيأتي يوم يغير فيه الناخبون رأيهم فيمنحون أصواتهم لأحزاب أخرى تؤهلها لقيادة الشأن الحكومي وفق ما تطرحه من برامج. فالتصويت لغير مرشحي البيجيدي بعد تزكيتهم في محطة انتخابية سابقة أمر غير وارد بالنسبة للبيجيدي قيادة وقواعد.
ذلك، أن التصويت للحزب كالعضوية فيه لا تسمح قيادة الحزب بخلافهما. لهذا لا نستغرب أن تهدد قيادة الحزب وتعقد العزم على مقاضاة الأعضاء الذين انسحبوا من الحزب وانضموا لأحزاب أخرى. وهذا دليل على أن الحزب غير متشبع بما يرفع من شعارات، وأنه لا يختلف عن “الطائفة” في الانغلاق؛ بل يتعامل مع أعضائه بالمنطق الفقهي القروسطي الذي يستنجد “بحد الردة” في حق من يخرج عن الجماعة. فمن يدخل الحزب أو يصوت عليه لا يحق له تغيير موقفه ولا انتماءه.
البيجيدي تعامل مع الشعب المغربي كـ”رهينة”
هذه العقيدة “الإخوانية” هي التي جعلت قيادة الحزب تتعامل مع الشعب المغربي كـ “رهينة” محكوم عليه بالطاعة والخضوع للحزب ولقراراته مهما كانت جائرة. وقد سبق لرئيس الحكومة السابق، بنكيران، أن استبد برأيه وقراره بتغيير قانون التقاعد حتى ولو “احتجوا عليه بشعب الصين”، كما قال داخل قبة البرلمان. بهذه الخلفية العقدية “الإخوانية” لم تستسغ قيادة الحزب نتيجة الانتخابات التي هوت بها من المرتبة الأولى إلى الثامنة، وقضت على أحلامها في قيادة الحكومة ومواصلة استراتيجية “التمكين” واختراق مفاصل الدولة.
ففي بلاغها، عبرت الأمانة العامة للحزب عن الصدمة الشديدة التي أحدثتها النتيجة، لدرجة أنها اعتبرت “النتائج المعلنة نتائج غير مفهومة وغير منطقية ولا تعكس حقيقة الخريطة السياسية ببلادنا ولا موقع الحزب ومكانته في المشهد السياسي وحصيلته في تدبير الشأن العام المحلي والحكومي والتجاوب الواسع المواطنين مع الحزب خلال الحملة الانتخابية”. لقد تخلى عن الحزب أعضاء كثيرون منه والمتعاطفون عقابا له على ما ارتكبه في حق الشعب من مظالم وقرارات بحجم الجرائم مست الأرزاق ومصير وأحلام الشباب في الشغل وانتظارات المواطنين في الخدمات الاجتماعية والعيش الكريم.
لم يدرك الحزب، بعد، أن الناخبين منحوه أصواتهم، ليس لتحرير فلسطين أو إقامة دولة الشريعة، ولكن لمحاربة الفساد ومحاسبة ناهبي المال العام وتجويد الخدمات الاجتماعية وفتح فرص الاستثمار والتشغيل. لا شيء من هذه الانتظارات والمطالب تحقق، بل أجهز الحزب على القدرة الشرائية وقضى على فرص الشباب في الشغل وفي الوظيفة العمومية ورهن مستقبل الوطن بيد الدوائر المالية العالمية.
اليوم يحصد الحزب نتائج الوعود التي أخلف والآمال التي وأد والحقوق التي صادر. لقد أطفأ البيجيديون مصباحهم بأفواههم فرمى به الناخبون بين المتلاشيان.