نعيمة غرافي تقرأ “شروط العشق” للشاعر عثمان ناجي (2/2)
عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، يصدر للشاعر عثمان ناجي ديوان “شروط العشق” في طبعته الأولى، ومجموع قصائده ثمانية وعشرون قصيدة تتفاوت في حجمها ما بين الشذرة والقصيدة التي تغطي صفحتين من القطع المتوسطة، تنفرد كل منها بعتبة خاصة ترد بصيغة النكرة، كما تتوزع على تيمات مختلفة أو روافد متعددة لتصب في نهر واحد يفضي إلى مصب بحري مشترك هو بحر “العشق” بشروطه الوجدانية التي شغلت ذاكرة عشاق الحرف والكلمة منذ الأزل،،،
وكما للعشق شروط عشر أو أكثر، فله ايضا حيوات سبع حين تصير للذاكرة سطوتها التي تتعب القلب، ويغدو الشوق طيفا ملثما يطرق الباب بقوة في سواد ليلة ماطرة: تنساب الذكريات في قصيدة “ذاكرة”؛ ضحكات، قضمة من خبز مربى التوت، رسالة منقولة من كتاب مدرسي، يشتد الشوق باحثا في زوايا الذاكرة عن كل التفاصيل الصغيرة، ينفض عنها الغبار لا مباليا بمنبهات الحياة الصباحية ولا بزحمة المرور في دروبها… انه الشوق الأشبه ب “شوق الاشجار لفراشات الربيع، وشوق السحاب لقمة الجبل، شوق المنتظرين أبدا”.
مع كل انتظار وقبل بزوغ النهار يصير “الأرق” قصيدة البوح الليلي، ويصبح “الحلم” ضبابيا ودون تفاصيل واضحة، مع أنه حلم أثيري يترك أثرا شفافا وناعما في قلب العاشق. و”الليل “عند شاعرنا هو ليل الراحلين الذين تقتفي طيور النورس وحدها آثارهم، ليل الشاعر ليل صمت مجلجل صاخب يتمظهر في رياح منذرة بالتيه والغياب…
“لا شيء يشبه الغياب حبيبتي لا شيء” إن هذه الجملة الشعرية التي تفتتح بها قصيدة “غياب” وتقفل بها أيضا، تختزن الوجع كله، ونحن كقراء نستشعر شساعة هذا الوجع المضني للقلب ونقيس حجم معاناة الشاعر من غياب هو أشبه بعزف كمان حزين، هو وجع الصدى في الهمسة، واليد الملوحة للقطار، هو رسالة الوداع الاخيرة… وسرعان ما يشرع الشاعر نافذته على نظرة الحبيبة.. وبدء قصيدة قبل انتهاء… ولهاته القصيدة التي تنتهي من حيث تبدأ وقعها الخاص ويصبح لشكلها الدائري رمزيته؛ فالغياب حالة لا منتهية يجول الشاعر في فلكها الدائري المطوق بعد ان تربص الفراق بقلبه و جعل “أغصان الشوق تهتز… وتسقط أخر ورقة توت مترنحة كطير جريح” وينخرط الشاعر في بكائياته العشقية في قصيدة “مرثية عادية” وهي المرثية التي خطها الحنين، هي أشلاء الذاكرة، هي العيون الصامتة، هي الأحلام المتلاشية، هي لوعة الفراق وهي”سيدة ترقع بخيط الضوء أثار دمع خفي”، انها مرثية الحب الذي كان، والذي ينتعش بماء الحنين، إنها مرثية الصمت وسطوة الذاكرة…غير أنها تغدو في النهاية مرثية “عادية” لأنها مرثية الكثير من المحترقين بنيران العشق وإذ يحتفي الشاعر بترانيم العشق، لا يغفل الغوص في كنه “دنيا” ليستكشف وجهها الوضاء “وبياض لوحتها التي تغري بالسفر” في كل زواياها، في سحرها ووشمها، في ألوان صباحاتها الأثيرة، في مواعدها،، انها النبيذ والشهد وبحروف الحلم يعمد الشاعر هاته الدنيا “المتأرجحة بين قبلتين بأحمرها الفريد على وجنتين”، فهي بلا اسم ولا قافية، هي طيف بألوان قزحية تجتاح أعالي الروح لشاعر يكتب قصائد العشق، أعزل من كل أدوات التصدي لإحساس قاتل أصاب قلبه القيسي.. ويتماهى الشاعر مع البحر في قصيدة “موج” وهو إذ يقرأ لوحة البحر قراءة شاعرية يسافر معه في هديره تارة “موج لا يهادن احدا يقضم بشراهة أطراف الشواطئ” وتارة في سكونه وروعة المشاهد التي يرسمها الشاعر بحروفه؛ “يجلس البحر وحيدا على كرسي الكون يتلذذ بعبور المراكب وغروب الشمس”، وله مع القمر حكايات، “يصالح الأرض والقمر ويعلم السفن فن السمر” وتكثر الانزياحات بهذه القصيدة إذ البحر يجلس، يتلذذ، ينام، يحلم، يغازل، ينتشي.. ويتمتع بصفات بشرية؛ قاس وصاخب.. ولكي لا يصير الليل معطفا نتسربل به في كل وقت، فأن الشاعر يدعونا الى أن نجرب حالة “الغضب” احيانا “أشياء غريبة و مثيرة تجعلك تجرب هذا الشعور”؛ الشمس الحارقة، الحذاء غير المريح، الفاتنة التي لا تجيد الطبخ،، ولكي يكون هذا الغضب مقدسا لا يليق بنا أن نبرره، لأن لا أحد قادر على قراءته، هو غضب ملتبس، وعصي على القراءة ككتاب فلسفة قديم، وأما تجلياته فهي: تقطيب الحاجبين، النظرة الطويلة المرعبة، الموسيقى المفزعة؛ “أمطر حبيبتك ببوح لا يراعي أعراف القبيلة.. حرر شياطين الروح دفعة واحدة.. ارقص على نغمات نشرة الأخبار بحماسة شاعر مجنون… كن حرا كن إنسانا” بهذا تصير الحرية دائما وأبدا أعلى مراتب العشق.