ثقافة و فن

موسيقى: لكل مقام.. صاحبته موسيقى غير قابلة للعزف!! (من المقامات الحجازية إلى عيوط خربوشة)

منذ بدء الخليقة، عرف البشر لغة واحدة لم تحتج سوي إصغاء القلب وخضوع الوجدان لمفرداتها وهي الموسيقي، والتي تطورت مع تطور الجنس البشري وأصبحت نغماتها وأدواتها ورموزها أكثر تعقيداً.

ورغم أن البشر جميعهم تقريباً يستطيعون استحسان وتذوق أنواعاً كثيرة من الموسيقي المعزوفة والمغناة حول العالم.. مثل الموسيقي الكلاسيكية، والبوب والبلوز، والروك، والهندية، والشرقية، وغيرها.. إلا أن هناك أنواعاً من الموسيقى شديدة الخصوصية والتعقيد ولا يكاد يستطيع عزفها أو غناءها سوى من نشأوا عليها ومن بدعوها من أهل بيئتها وشعوب منطقتها.

مقام “اللامي”، أي مقام في الدنيا من المفترض أنه أصل وفرع، أما مقام (اللامي ) فهو من المقامات النادرة لأن أصله كورد، وفرعه كورد، ومن خصائصه أنه “غير راكز”، أي أننا بعد أن نشعر بانتهاء الأغنية نجدها مازالت مستمرة مثل أغنية (تسلم إيدين اللي أشتري ) لعبد المطلب، و(اسمح وقوللي) لعبد الوهاب.. وهنا يقول د. مازن دراز أستاذ الموسيقي الشرقية بالمعهد العالي للموسيقي العربية: أدخل هذا المقام الخاص جداً لمصر الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب وتم تلحين أغاني عديدة به، وهناك مقام ( نوا أثر) ولا يستخدم كمقام كامل بل كجزء من أغنية، كما أن هناك فصائل لم تستخدم مثل مقام (نكريز) والذي تم عمل أغاني قليلة وغير معروفة منه، مثل: أغنية عبد الحليم حافظ (أحن إليك)، وأغنية (جرب نار الغيرة) التي لحنها صلاح الشرنوبي لوردة. مقامات مصرية؛ ويضيف دراز: المصريون القدماء كانت لديهم موسيقاهم الخاصة وآلاتهم والسلم الموسيقي الخاص بهم، والذي نحاول كباحثين ودارسين للموسيقي التوصل إلي عناصره وإلي الموسيقي التي عُزفت منذ آلاف السنين في مصر القديمة.

مصريون وراء مقامات  خلال العهد العثماني

أما في فترة الحكم العثماني، فتم إدخال مقامات جديدة صبغها المصريون بروحهم ومصروها حتي أننا صرنا نطلق عليها- مجازاً- المقامات المصرية، وهي نادرة الاستخدام، مثل: أغنية (علمني الحب) لصباح.. وهي من مقام (نهاوند مرصع) وهي الأغنية الوحيدة الكاملة في هذا المقام حيث يتم استخدام هذا المقام الصعب كجزء من أغنية وليس أغنية كاملة. موسيقي يهودية المطرب التونسي والعازف.. سامي دروبيز.. يلفت النظر لنوع خاص جداً من الموسيقي التونسية قائلاً: أراد التونسيون توثيق موسيقاهم وتدوينها حتي لا تندثر وتسجيلها في استيديوهات ألمانيا خاصة بعد عودتهم من مؤتمر القاهرة للموسيقى في عام 1932م، وقد حضّر القائمون علي المؤتمر كل أنواع الموسيقي العربية، وقد اكتشف التونسيون أن أغلب الأغاني هي ملك لليهود التوانسة، فيما عدا المألوف الأندلسي والأغاني الصوفية.. وكان من أهم مقامات أغانيهم (بحر العراق)، وهو يشبه مقام (الراست)، وقد أبدع التوانسة اليهود في هذا المقام الصعب الذي تخصصوا فيه.

مقامات تونسية

ويكمل دروبيز: المقامات التونسية صعبة لأنها تعتمد علي (ربع تون) مختلف، ومقام (الراست ديل) يصعب علي أي عازف غير تونسي أن يعزفه بشكل صحيح، فنحن لا نضع الربع تون في نفس المكان الذي يضعه الموسيقيون في الشرق.  وردة.. وموقف محرج ويتذكر سامي دروبيز أحد المواقف التي يتندر بها موسيقيو تونس إلي الأن رغم مرور ما يقارب الـ 20 عاماً علي حدوثه بقوله: من أشهر أغاني التراث التونسي والمجهول صاحبها أغنية (من فراق غزالي) وفيها 16 مقام تونسي ومقامها الأساسي (راست ديل).. وذات مرة في إحدي مهرجانات قرطاج أرادت الفنانة وردة عمل مفاجأة للجمهور التونسي فغنت تلك الأغنية ولكن للأسف فقد غنت بشكل خاطئ وخرجت من مقامات الأغنية كما لم يستطع العازفون العزف بشكل صحيح وكانت صدمة للجمهور التونسي وذلك لأن اللهجة الموسيقية التونسية شديدة الصعوبة والخصوصية؟!!

الموسيقى الحجازية

ومن تونس إلي الحجاز والموسيقي الحجازية شديدة التميز حيث يحدثنا المطرب والملحن السعودي هيثم الشاولي عن مقام (المجس) قائلاً: المقامات الحجازية كثيرة ولكن هذا المقام بالذات قديم ومن فروع مقام الـ (حجاز) ولكنه يختلف عنه ولا يجيد عزفه وغنائه نهائياً إلا من يعيشون في منطقة الحجاز (مكة، وجدَّة، والمدينة، والطائف) وكثير من المغنيين السعوديين لا يجيدون المجس لصعوبته، فلابد أن تكون متأصلاً في البيئة الحجازية. ومن أفضل المطربين الذين أجادوا المجس الفنان الكبير الراحل طلال مداح، وكذلك طلال سلامة، والمنشد الراحل محمد أمان، مضيفاً: قليل جداً من مقرئي القرآن الكريم يجيدون المجس الحجازي وحتي أساتذة الموسيقي الكبار لا يستطيعون إجادته. يؤكد هيثم الشاولي أن هناك خلاف حول تاريخ المجس، علماً بأن معظم الإيقاعات والمقامات الشرقية التي ظهرت في مصر كان أصلها عثماني أو تركي، كما أن معظم المقامات والإيقاعات العراقية والخليجية كان بها تنوع ما بين: الفارسية، والهندية، واليمنية.. وبالتالي الغناء العراقي والخليجي كان غني بالإيقاعات والمقامات الصعبة. كما أكد كثير من المؤرخين الموسيقيين أن المجس من أقدم المقامات وكان يدندن به منذ عصور الجاهلية قبل الإسلام وكان هو المقام الرئيس في الأناشيد ونستطيع الحسم أنه الوحيد الغير مستورد من عثمانيين أو فرس بل هو مقام أصيل وخارج من منطقة الحجاز. عبد الوهاب يتعلم المجس واقعة تاريخية أضافها الشاولي بقوله: عندما ذهب المطرب طلال مداح إلي مصر لتعلم الموسيقي طلب مقابلة الموسيقار محمد عبد الوهاب فرحب بمقابلته وخاصة أنه كان قد سمع بعض أغانيه وأبدي إعجابه بها، وذهب طلال لبيت عبد الوهاب وطلب الموسيقار منه أن يُسمعه بعض أغانيه ومواويله بالعود فأسمعه طلال (المجس الحجازي)، فاستغرب عبد الوهاب من حلاوته وعدم علمه به قبل ذلك وحاول أن يغنيه مع الفنان طلال مداح وأستغرب من صعوبته وعدم قدرته علي أدائه بسهولة بينما كان يغنيه طلال بسلاسة ولم يستطع الموسيقار الكبيرعزف وغناء المجس الحجازي. معاناة كاظم الساهر أما الإعلامي والناقد الفني أحمد علاء الدين فيقول أن المقامات العراقية أكثر عدداً من المصرية إذا قارنا بينهما، كما أن الإيقاعات الخليجية هي نتاج تلاقح ايقاعات الشرق مع الهند ومن أهمها إيقاع يسمي (الخبيتي.)

ويتذكر علاء الدين أحد أغنيات الفنان كاظم الساهر والتي لحنها للمطربة لطيفة وعند الاستعانة بعازفين مصريين من الفرقة الماسية لم يستطيعوا عزفها حيث كانت من مقام عراقي يسمي (المخالف) وكان اسم الأغنية (حاسب) وقد اضطر كاظم لإحضار عازفين من العراق لعزف الأغنية بعد معاناته في تسجيل الأغنية. كذلك يذكر أن عبد الوهاب في مرحلة مبكرة من حياته سافر الي العراق لتعلم مقاماته علي يد نقيب الموسيقيين العرب وقتها فاروق هلال، ومنها: مقام ( اللامي). تميز عراقي ويكمل علاء الدين: العراق هي البلد الوحيد الذي ينتج مقامات أصيلة غير مهجنة، بينما يلعب الشرق عموماً نفس المقامات مع اختلاف الأسماء والتي قد يتم تسميتها بأسماء مناطق أو عرقيات، مثل: مقامات (كورد، وعجم، وحجاز) بينما مقامات العراق تُطلق علي أسماء القبائل والعوائل، ومن أهم تلك المقامات: اللامي نسبة لبني لام، والبياتي لعائلة البياتي، ومقام المخالف وهو مقام سماعي وليس له نوتة للعزف ولابد أن يكون العازف من أهل المنطقة ليستطيع عزفه .. أي إبناً للبيئة العراقية..، وكذلك مقام الفلاح وهو ناتج من البيئة الفلاحية العراقية وكان الفلاحون يغنون أغانيهم به.

وقد اخترع الفنان نصير شمة مقام جديد وأسماه (الهلال). موسيقي المقاومة المغربية وبعد مصر وتونس والحجاز والعراق، نود القاء الضوء علي لون شديد الخصوصية من ألوان الغناء المغاربي وهو من موسيقي المقاومة ويسمي (عيوط خربوشة).. والعيطة هو نوع من الغناء الذي نشأ مع الإستعمار في المغرب ويتضمن رموزاً لا يفهمها سوي أهل المغرب تحمل شفرات سرية بين أفراد المقاومة ضد العدو.

وعيوط خربوشة..

نوع ابتكرته في أواخر القرن العشرين سيدة كانت تدعي (حادة الزيدية) وأُطلق عليها لقب خربوشة نتيجة لـ (خرابيش صغيرة) كانت بوجهها. وقد تعرضت قبيلتها (أولاد زيد) إلي السلب والنهب من قبيلة أولاد عمر وقائدها عيسي بن عمر، وذلك لتعرض قبيلته للجفاف والجوع مما جعله يغيّر علي قبيلة خربوشة ويسترق نسائها وهي منهم ويقتل رجالها، وقد ألّفت فيه الشعر الهجائي الذي أصبح من أهم أشعار التراث المغربي مما عرضه للسخرية من أبناء القبائل وعندما فشل في اسكاتها قتلها!!.

وتعتبر المقامات في العيطة الخربوشية من أصعب المقامات الموسيقية ولا يتقنها سوي أهل المغرب.

لخبطة محمد أبو زيد أستاذ الموسيقي الشرقية بجامعة حلوان، يوضح أن سبب أختلاف المقامات هو تغير مسمياتها من بلد الي آخر، وأن الموسيقيين ليس لديهم دراسات أو فهرست مجمع لكل المقامات الشرقية وإن كان هناك بعض المحاولات لأن موسيقانا غنية جداً بالمقامات.

وفي مصر فقط من 25 الي 75 مقام متداول منهم 9 وربما 11 أساسيين، أما الباقي فيتم استعماله مع تغيير المسمى والتناول وشكل المقام وبداياته ونهاياته. وفي شمال أفريقيا والمغرب، يتم استعمال 7 نغمات من قسمين: أول، وثاني ويحصل تبديل وتوفيق بينهما، وبعض من أشكال الغناء يسمي (مقام) وهو ليس مقاماً، والعراقيون فقط هم من يميزون بين أغنية المقام، والمقام نفسه والموسيقي العربية فيها الكثير من اللبس واللخبطة وتحتاج الي دراسة متعمقة وطويلة وإلي التخصص.

ويواصل أبو زيد: في الكويت هناك شيء أسمه (الصوت)، وهو شكل غنائي خاص بهم واذا لم يستطع عازف عزف شكل موسيقي ما مثل أهل بلدها فذلك لاختلاف (النسب الموسيقية).. فمثلاً: لو أنا عزفت الراست وهو أبو المقامات الشرقية ويتضمن نغمتين الـ (مي)، والـ (سي).. ففي مصر سوف أقوم برفع النغمة، أما عازف شمال أفريقيا والمغرب العربي فسوف يخفضها.. نسبة المقامات تختلف من دولة لأخري ومن منطقة لمنطقة مثل اختلاف الموسيقي التركية عن العربية رغم ما يبدو من تشابه بينهما، أما في الهند، فيعزفون (الراجا.

ويستطرد أربو زيد: (التون) هو الفرق بين نغمة ونغمة/ ففي الموسيقي الغربية يتم القسمة علي 2، وفي العربية علي 4، والتركية علي 9، والهندية علي 25.. وهو نفس التون لذلك يجب أن يكون العازف من أهل المنطقة التي يتم عزف الموسيقي فيها. العود الياباني ويختم أبو زيد: هناك آلة شبيهة جداً بالعود في اليابان، ورغم أنني أستاذ موسيقي فلن أستطيع العزف عليها، ورغم أن هناك بعثات موسيقية تأتي الينا وتتدرب عندنا ويصلوا لتكنيك عزف عالي جداً ولكن ينقصهم التشبع بالحس العربي، وللأسف فحتي شبابنا العربي أصبح ينقصه ذلك الحس وابتعد عن موسيقانا وأصبح من الصعب عليهم الاستماع لها وعزف مقاماتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock