من المسؤول عن أحداث مهرجان البولفار؟
لا جرم أن الأحداث التي شهدها مهرجان البوليفار بالدار البيضاء ليلة الجمعة 30 شتنبر تفرض نفسها على كل الفاعلين في المجتمع لدراستها وتحديد أسبابها ثم تقييم تبعاتها. إذ لا يمكن أن تمر مر الكرام لتكون لها امتدادات خطيرة على الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية. ذلك أن أعمال العنف والتخريب والاعتداء على المواطنين بلغت في المهرجان حدا ينذر بخطر حقيقي يهدد النسيج الاجتماعي والمنظومة الأخلاقية للشعب المغربي.
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تنظيم مهرجان فني، بل عرفت جهات المغرب ومدنه عشرات المهرجانات دون أن تسجل فيها الأحداث الخطيرة التي تم تسجيلها في بوليفار الدار البيضاء في دورته العشرين. الأمر الذي يطرح على كل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين سؤالا محددا: من الذي يتحمل مسؤولية ما وقع في المهرجان؟ طبعا الجهة المنظّمة للمهرجان تنصلت من مسؤوليتها ببلاغ تتهم فيه ضمنيا الجهات الأمنية لكونها لم تؤطر “الإقبال الكبير” للجماهير الذي اضطر الإدارة إلى “إغلاق أبواب الملعب على الساعة الثامنة ليلا.. ونتيجة كل ما سبق، لم يتمكن عدد مـن الجمهور والصحافيين والشركاء والمهنيين في الموسيقى، مـن ولوج فضاء ملعب الراسينغ البيضاوي، نتيجة تدافـع جـزء من الحاضرين وهو ما تسبب في تسجيل خسائر مادية”. في حين أن مسؤولية ما وقع هي بالدرجة الأولى تقع على وزارة الثقافة ثم الجهة المنظمة، وبعدها تأتي مسؤولية الأسرة والمدرسة. ذلك أن وزارة الثقافة، المفروض فيها التدقيق في هوية الفنانين ونوعية أغانيهم وقيمتها الفنية والجمالية قبل توجيه الدعوات، تتحمل كل المسؤولية في إشراك “طوطو” ضمن فعاليات المهرجان، وهو الشخص المعروف بتعاطيه للمخدرات والتحريض العلني على تناولها. الأمر الذي يطرح عدة أسئلة على وزير الثقافة:
1- أي نوع من القيم الاجتماعية والأخلاقية يسعى لترويجها بين الشباب خصوصا، وفي المجتمع عموما، بفتح المجال لـ”طوطو” وأمثاله؟ فوزارة الشباب مسؤوليتها نشر قيم المواطنة والتسامح والانفتاح الثقافي على الأنماط الفنية التي ترقى بسلوك الأفراد وتهذّب تصرفاتهم وتشيع بينهم المحبة والتعاون والمساواة ونبذ العنف بكل أشكاله.
2- أي نموذج “للفنانين” تقدمه لعموم الشباب الذي هو في مرحلة بناء الذات وتكوين المعالم الرئيسية لشخصيته؟ “طوطو” ليس النموذج الذي تضحي الأسرة من أجل تربية أبنائها على شاكلته. فالشباب المغربي بحاجة إلى نماذج تربي فيه عزة النفس والارتباط بالوطن والتمسك بالهوية المغربية في كل أبعادها الحضارية والثقافية والدينية والاجتماعية والإنسانية. أما نماذج “التشمكير” فيكفي ما يعانيه المواطنون والأسر من انحرافاتهم.
3- ألم تكن تلك الأموال العمومية المرصودة (4 ملايير سنتيم) لمهرجان يستضيف “طوطو” وأمثاله أحق أن توجَّه إلى تأهيل دور الشباب وتجهيزها ودعم الجمعيات الفنية والثقافية والرياضية الجادة لتقوم بدورها التربوي والتأطيري السليم للمراهقين والشباب وتحصينهم من الانحراف والتطرف؟ إن وضعية غالبية دور الشباب بحاجة إلى الترميم والإصلاح والتجهيز خصوصا في الأحياء الشعبية والمدن الصغيرة لكن عيون وزير الثقافة لا تراها.
4- لماذا لم ينضبط السيد وزير الثقافة لتوجيهات السيد رئيس الحكومة بضرورة ترشيد النفقات العمومية في كل القطاعات، وهو يرصد الميزانية لمثل هذا المهرجان التخريبي للقيم الاجتماعية؟ حين طالبته دور النشر بدعم الكتاب المغربي قصد تشجيع القراءة تذرع بضعف الإمكانات المادية، بينما سخاؤه مع مثل هذا النوع من المهرجانات لا يدل على التزامه بالتقشف أو ضعف الميزانية.
لا شك أن ما وقع في المهرجان يجعل كذلك مسؤولية الأسرة والمدرسة ثابتة. فهاتان المؤسستان استقالتا عن أداء وظيفتهما التربوية وتركتا الأطفال والمراهقين تتلاعب بعقولهم وسلوكاتهم تيارات متنافرة تلتقي عند هدف مركزي هو تدمير الفرد والمجتمع والدولة. ولعل أحداث العنف والتخريب التي تشهدها الملاعب الرياضية، هي نفسها التي شهدها مهرجان البوليفار؛ مما يعني أنها ليست عرضية ولا طارئة، بقدر ما هي نتيجة حتمية لتخلي الأسرة والمدرسة عن أدوارهما التربوية. فهذه الأحداث هي ناقوس خطر يحذر من ظواهر الانحراف الفكري والسلوكي التي تنخر المجتمع.
من هنا، فإن المسؤولية الوطنية والمجتمعية تفرض التعامل بكل جدية مع تلك الظواهر عبر اعتماد المقاربة التربوية بمختلف مستوياتها الأسرية، التعليمية، الإعلامية، الفنية، الثقافية والدينية. أما التركيز على المقاربة الأمنية وحدها في مواجهة مخاطر التطرف والإرهاب والانحراف والإجرام التي تتهدد المجتمع والوطن معا، أو ترك الأجهزة الأمنية دون غيرها في الواجهة، فلن يقضي عليها، بل يزيد من استنزاف طاقات العناصر الأمنية وتحميلها فوق ما تحتمل.
لا عذر، إذن، لكل مؤسسات المجتمع عن التقاعس والاستقالة أمام تفشي مثل هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة. وما يزيد من الطين بلة، أن المواطنين، في بعض المواقف، يتضامنون مع المجرمين والمنحرفين الذين يتهددون سلامة الجميع بمن فيهم رجال الأمن كلما اضطر هؤلاء الأخيرين إلى استعمال سلاحهم الوظيفي لتحييد الخطر. فكثيرا ما تصاعدت الأصوات، خاصة “الحقوقية” منها، مستنكرة إصابة مجرم أو مقتله برصاص رجال الأمن دفاعا عن أنسفهم وحماية للمواطنين من خطره. بل كثيرا ما تداولت مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لمواطنات ومواطنين يمنعون رجال الأمن من اعتقال مجرم رفض الامتثال.
جميعنا يتذكر كيف تباكت أمهات المراهقين الذين تورطوا في أحداث التخريب والسرقة والاعتداء على المواطنين ورجال الأمن؛ وكان آخرها تلك التي أعقبت مباراة فريقي الجيش الملكي والمغرب الفاسي لكرة القدم بالمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بالرباط، في مارس 2022.
إن مسألة توفير الأمن مسؤولية مشتركة تتقاسمها كل مؤسسات المجتمع وأفراده كل من موقعه. وحين تتخلى الأسرة والمدرسة ودور الشباب والثقافة والمساجد ووسائل الإعلام عن أدوارها التربوية، فإنها تساهم، مباشرة في تفريخ الإجرام والانحراف والتطرف، الأمر الذي يزيد مهمة الأجهزة الأمنية تعقيدا.