مصالح الأوطان تتجاوز العقائد والعواطف
سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي درس لكل الأنظمة السياسية التي ترهن شعوبها ودولها للعقائد الدينية أو الإيديولوجية بأن مصيرها الزوال أو التفكك. فلا نظام خارج حركية المجتمع والتاريخ والواقع . فقانون الطبيعة: “البقاء للأصلح” الذي تخضع له الكائنات الحية تخضع له كذلك المجتمعات والدول والثقافات وحتى الأفكار. فكما تتغير المصالح تتغير بالضرورة الأفكار المؤطرة لها. فالأفكار كالأحكام الفقهية تدور مع عللها وجودا وعدما. وأي نظام (سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي..) يستعصي عن التطور أو يناهضه، أي يفتقد لخاصية المرونة والقابلية للتطور، سيسري عليه قانون الطبيعة، بحيث تتجاوزه الأحداث والوقائع. والمغرب، لا يشذ عن هذا القانون، بل يخضع له كبقية الشعوب والأنظمة . والتطور يكون على مستويات عدة وبتجليات مختلفة، ومنها تقدير المصالح العليا للوطن وحسن اقتناص الفرص في اللحظة المناسبة.
ذلك أن إضاعة الفرص تكون تكلفتها عالية وقد تضيع ويضيع معها الشعب والوطن. ولعل القضية الفلسطينية خير تجسيد لضياع الفرص وضياع الشعب وضياع الوطن. فالعواطف والعقائد لا تصنع الأوطان، بل قد تدمرها أو تضيعها. ومن يسيء قراءة الواقع أو يتعالى عليه يجني الخيبات والخسائر. إذ بالعودة إلى نص قرار التقسيم لأرض فلسطين إلى دولتين، نجده يضمن للفلسطينيين حق إقامة دولة ودستور إلى جانب دولة إسرائيل (تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية، والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس المبين في الجزء الثالث من هذه الخطة، وذلك بعد شهرين من إتمام جلاء القوات المسلحة التابعة للسلطة المنتدبة، على ألا يتأخر ذلك في أي حال عن 1 أكتوبر/تشرين الأول 1948). فمن لا يحسن قراءة المتغيرات الجيو سياسية سيحصل له ما حصل ويحصل للفلسطينيين؛ إذ كلما رفضوا الممكن صار مستحيلا وضاقت أمامهم الخيارات وتقلصت مساحة المناورة بتقلص الأرض.
من هذا المنطلق، علينا كمغاربة أن نتخلى عن العواطف والعقائد لنحسن تقدير المصالح العليا لوطننا. ذلك أن قرار الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية أنضجته جهود دبلوماسية حثيثة ومكثفة، ومن حق الشعب أن يجني ثمارها ويستثمر نتائجها لتأمين الوحدة الترابية ضد مخططات الانفصال والابتزاز والتآمر. هي فرصة تاريخية لا يمكن للمغرب أن يضيعها كما ضيع الفلسطينيون فرصة التقسيم التي لن ينفعهم الندم ولا حتى النضال لاستدراكها. وعلينا كمغاربة أن ندرك أن خطاب “التآمر” و”المقايضة” و”الخيانة” الذي يردده تجار القضية الفلسطينية من أبنائها ومن غيرهم، هو الذي أضاع على الفلسطينيين كل الفرص في إقامة دولة مستقلة. والانخداع بهذا الخطاب أو الخضوع له سيزيد وضعية وحدتنا الترابية تعقيدا وفرص حسمها ضياعا.
فإقامة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل هي في الواقع استئناف وتمتين للعلاقات والروابط التي كانت دائما موجودة بين المغرب وأبنائه اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل بسبب الاضطهاد النازي لليهود. ومع هذا الاستئناف ستكون فرص زيارة اليهود للمغرب متاحة ومباشرة دون المرور على دول أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن اليهود المغاربة أكثر تشبثا بمغربيتهم وحنينا إلى أرض آبائهم وأجداهم. إذ تكفي الإشارة إلى أن بالمغرب 500 ضريح يقدسها اليهود ويزورونها سنويا في موسم “الهيلولة”. ومعلوم أن الملك محمد الخامس رحمه الله عارض طلب هتلر تسليمه اليهود أو طردهم من المغرب.
هذا الموقف لازال يؤثر على اليهود ويدينون للملك به وبشجاعته رغم أن البلد كان تحت الاستعمار. ففي تصريح صحفي قال رئيس رئيس الطائفة اليهودية في مدينة مراكش، جاكي كدوش إن “الأمر احتاج شجاعة كبيرة”. نتيجة لهذا الموقف الشجاع، يؤكد السيد كدوش: “اليهود ظلوا ممتنين لموقف الملك، فهو من أنقذ حياتهم ورفض تسليمهم للألمان الذين كانوا يحكمون العالم حينها ويحرقون اليهود”. وهذا الذي جعل اليهود المغاربة يعلقون إلى اليوم، صور الملك الراحل محمد الخامس في منازلهم عرفانا منهم بقراره الشجاع وحبا له ولوطنهم المغرب.
هذا الرصيد الوطني والروحي الذي يوفره اليهود المغاربة لوطنهم المغرب هو الذي يسعى المغرب لاستثماره من أجل السلام في الشرق الأوسط وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس قيام دولتين. فالمغرب يدرك أن اليهود المغاربة يحملون نفس ثقافة التسامح التي يتشبع بها الشعب المغربي، ومن ثم ستكون إعادة العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل فرصة مواتية لليهود المغاربة لدعم جهود السلام وإعادة المفاوضات الجادة بين الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، بهدف إنهاء الصراع. وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن نوه بهذه الخاصية حينما قال “حين يرحل يهودي من المغرب، فإن البلد يخسر مواطنا، ولكنه في المقابل يكسب سفيرا”.
لا شك أن المغرب بإعادة علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل ستتوفر له فرص أكثر لاستثمار هذا الرأسمال المادي واللامادي من أجل خلق أجواء الاطمئنان والثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وما يزيد من فرص النجاح أن اليهود المغاربة الذين يتجاوز عددهم في إسرائيل المليون نسمة يشكلون قوة سياسية مؤثرة داخل إسرائيل، ويحتلون مواقع قيادية ومراكز حساسة في مختلف المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية والإعلامية وغيرها. ونظرا لوزنهم السياسي والانتخابي ( مليون من أصل ستة ملايين إسرائيلي ) يبذل زعماء اليمين الإسرائيلي جهودا لاسترضائهم قصد الحصول على أصواتهم في الانتخابات. فقوتهم السياسية والانتخابية جعلت نتنياهو يختار 10 وزراء من أصل مغربي، أي ثلث أعضاء حكومته بالإضافة إلى رئيس الكنيست.
سيكون للمغرب، إذن، صوت مسموع داخل الحكومة الإسرائيلية وباقي مراكز القرار، سيمكنه من تلطيف الأجواء بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإحياء المفاوضات بينهم لإنهاء الصراع الذي طال عقودا. من هذا الجانب، سيقدم المغرب خدمة مهمة للقضية الفلسطينية إلى جانب الدعم المادي والسياسي الذي يبذله. أي أن المغرب سيوفر وساطة فعالة وإيجابية ومفيدة بين الطرفين المتصارعين. فالعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل توفر للمغرب مفاتيح مهمة لفائدة القضية الفلسطينية لم ولن توفرها حالة الصراع وقطع العلاقات. فليس مطلوبا من المغرب أن يحارب نيابة عن الفلسطينيين أو يرسل جيشه للقتال هناك، وحين قررت الدول العربية، سنة 1973 خوض الحرب ضد إسرائيل كان الجيش المغربي في طليعة الجيوش العربية وحارب ببسالة وقدم شهداء. أما اليوم، فلا مجال لقيام حرب عسكرية مباشرة في ظل تعدد جبهات النضال ووسائل الدفاع عن القضية الفلسطينية.
إن الدفاع عن القضية الفلسطينية لا ينبغي أن يكون على حساب المصالح العليا للوطن ولا أن يتعارض معها. وعلى الذين يتهمون المغرب بما يتهمون أن يخبرونا ويخبروا الشعب الفلسطيني عن حصيلة الدعم الذي قدمته أنظمة إيران الملالي وليبيا القذافي وعراق صدام وسوريا الأسد وجزائر بومدين وباقي الجنرالات غير تحويل الممكن إلى مستحيل ثم إلى أحلام، ثم تشديد الخناق على المواطن الفلسطيني البسيط الذي كان وطنه “على مرمى حجر.”