محمد عبده وليو تولستوي: رسائل لأجل التنوير….!
من عاد يذكر محمد عبده الآن؟ ومن عاد يذكر رواد الإصلاح الديني في المنطقة العربية الإسلامية الذين صالوا وجالوا وحركوا المياه، الفكرية، الراكدة في عالم عاش لقرون في العتمات والمناورات والدسائس إلى أن حل الاستعمار في البلاد…. لنستمر الدسائس… “ويقتل المتنورون بنيران صديقة، وتحت يافطة الفسق والتكفير…”
في هذه الورقة/المقالة، محاولة لاستحضار أحد رواد الإصلاح الديني، محمد عبده، والتنوير الفكري والذي لم تكن نهاية حياته أفضل من النهايات التي لازمت كثير المفكرين والفلاسفة في عالم هيمن عليه الجهل واللاهوت والدسائس… بعد أن قضى مسموما…
هنا استحضار لرسائل سبق وأن تبادلها محمد عبده مع الروائي الروسي ليو تولستوي… للذكرى وللدرس أيضا… ضد النسيان….
اعتبرا أعظم مفكري لحظتهما التاريخية، واشتركا في كونهما أسهما وقدما للبشرية فكراً وتنويراً وإلهاماً، رغم اختلاف ديانتهما، حين كان الأول آت من حقل الثقافة الإسلامية والثاني من الثقافة المسيحية…
بالنسبة للإمام محمد عبده، فإنه اعتبر رائد التنوير وتجديد الخطاب الديني في مصر، أما ليو تولستوي الأديب فكان حضوره التاريخي عبر الأدب وهو الروائي الروسي، واشتركا في كونهما عاشا نفس الفترة الزمنية، وأحدثا د نهضة فكرية أصبحت وثيقة إنسانية تلهم الآخرين إلى الحب والتسامح وتنير العقول وتستلب الألباب.
رغم اختلاف المسافات بينهما، إلا أنهما تلاقيا فكرياً وروحانياً، وتواصلت الرسائل والأفكار بينهما.
محمد عبده
قرأ الشيخ محمد عبده روايات تولستوي وكتابه حول حكم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان تولستوي، رغم ديانته المسيحية معجباً بالنبي محمد ومحباً للإسلام، ويراه ديناً راقياً يدعو للسلام والحياة ورقي الإنسان، وهو ما أعجب الشيخ محمد عبده بالأديب الروسي وجعله يقبل على قراءة رواياته.
اتفق الاثنان على أن الدين والإنسان يصنعان الحياة، وأن الإنسان هو أغلى وأثمن ما في هذه الحياة، وجاء الدين ليرتقي ويسمو بنفس وعقل هذا الإنسان ليصنع الحياة ويعمرها.
يكشف الدكتور مالك منصور، حفيد الإمام محمد عبده، عن رسالتين متبادلتين بين جده الإمام وتولستوي مازالتا محفوظتين في متحف تولستوي بموسكو شاهدتين على تسامح الأديان وعظمة الرجلين ودعوتهما للخير والحب ونبذ التعصب.
ويضيف، أن جده كتب الرسالة النادرة بخط يده وأرسلها بريدياً، وكان وقتها يشغل منصب مفتي مصر، ورد تولستوي على الرسالة بأخرى رقيقة محبة ونبيلة، مليئة بكل القيم والمثل الإنسانية الجميلة.
رسالة الإمام محمد عبده إلى ليو تولستوي:
“عين شمس – ضواحي القاهرة – فى 8 إبريل 1904
أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي،
لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقي به نفسه، شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم و زعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم”.
وتضيف رسالة محمد عبده: “وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماماً يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو الذي سموه بالحرمان والإبعاد، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم، هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام.
مفتي الديار المصرية
محمد عبده
إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسية، فأنا لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها
محمد عبده.”
تولستوي يرد على عبده في رسالة:
“المفتي محمد عبده،
صديقي العزيز،
تلقيت خطابك الكريم الذي يفيض بالثناء علي، وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكداً لك ما أدخله علي نفسي من عظيم السرور حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أهل ملة غير الملة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينه وديني سواء لأن المعتقدات مختلفة وهي كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح، وأملي ألا أكون مخطئا إذا افترضت، استناداً إلى ما ورد في خطابك، أن الدين الذي أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذي قوامه الإقرار بالله وشريعته والذي يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه. وأود أن تصدر عن هذا المبدأ جميع المبادئ الصحيحة، وهي واحدة عند اليهود وعند البرهمانيين والبوذيين والمسيحيين والمحمديين.
واعتقادي أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات والأوامر والنواهي والمعجزات والخرافات تفشي أثرها فى إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء. وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعاً.
من أجل ذلك ابتهجت بخطابك ابتهاجاً غامراً، وودت أن تقوى بيننا أواصر القربى والتواصل.
تفضل أيها المفتي العزيز محمد عبده بقبول وافر التقدير”.