ما بعد الكوفيد 19: الأبعاد المأساوية والتعليم (2)
تعرف المدرسة الأمريكية نقصاً في عدد الموظفين، ويعاني الكثير من الأساتذة فيها من الإجهاد والإرهاق الناتج عن العمل الذي يفوق طاقتهم، لذلك فهم يحتاجون إلى وقت للراحة، ودعم من جوانب مختلفة...
ترجمة وديع بكيطة (باحث ومترجم)
نشر موقع فوربيس Forbes يوم 28 مارس 2022 صباحا مقالا للكاتب مارك بيرنا Mark C. Perna يبين ويفصل فيه وضع التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وسم العنوان كالاتي: The Life Of A Teacher And Why It’s Beyond Hard ما ترجمته: بـ”حياة الأستاذة ومآسيها” وهو استمرار لمقال سابق له عنوانه “Why Education Is About To Reach A Crisis Of Epic Proportions ” صدر يوم 04 يناير 2022 بنفس الموقع، ما ترجمته بـ: لماذا التعليم على وشك الوصول إلى أزمة ذات أبعاد مأساوية؟”، لكني لم أخذ بهذا العنوان ووسمته بعنوان آخر هو: “ما بعد الكوفيد 19: الأبعاد المأساوية والتعليم (1)”، وقد حافظت على نفس هذا العنوان في ترجمتي هذه، وأضفت فقط رقم (2)، لأن هناك صلة بينهما. لا تتعلق هذه المقالات من وجهة نظري بمأساة وطنية تتعلق فقط بالولايات المتحدة الأمريكية، بل يتجاوز الأمر إلى سائر الأنظمة التعلمية بالعالم ومنها المناطق الناطقة باللغة العربية، التي لها من المشاكل السابقة والجذرية ما يزيد من خلق مأساة مضاعفة، كارثة إنسانية بكل المقاييس:
يعتبر التعليم مجالا صعبا، وقد شكلت فترة كوفيد 19 (السنتين الماضيتين) اختبارا لهذه المنظومة التعليمية.
تعرف المدرسة الأمريكية نقصاً في عدد الموظفين، ويعاني الكثير من الأساتذة فيها من الإجهاد والإرهاق الناتج عن العمل الذي يفوق طاقتهم، لذلك فهم يحتاجون إلى وقت للراحة، ودعم من جوانب مختلفة.
للأسف، قد يكون الأسوأ لم يأت بعد، حيث إن مشاكل التعليم لا تزال تتراكم. يقول الدكتور لين غانغون Dr. Lynn Gangone رئيس الرابطة الأمريكية لتكوين الأساتذة بأن التعليم:” مهنة رائعة، يجب أن يحب فيها الأساتذة عملهم، لأنها مهنة تقوم على الحب بين الطالب والأستاذ، لذلك يجب أن نراعي مطالب الأساتذة، لأن نزيفهم ونقصهم مستمر، وسيؤدي بنا إلى كارثة”.
بالطبع، أنا لست أستاذا لكن عملي يتعلق بالتعليم، مع من يعملون يوميا على تغيير العالم، وهم أصحاب رؤية. وددتُ أن أترك هؤلاء الأساتذة يتكلمون عن أنفسهم، وتشرفت بلقاء الأستاذة إيمي بيرسون Amy Pierson وهي باحثة بسلك الدكتوراه وعلى وشك المناقشة، وشاركتها يوما في حياتها المهنية، وهي تعمل في مجلس التعليم بالولاية وتُدرس الصف الرابع في مدرسة كلود بيك الابتدائية Cloud Peak Elementary بمقاطعة جونسون.
من الواضح أنها أستاذة مثالية، وهي تمارس تأثيرا إيجابيا على طلابها، وهذا ما يريد أن يعرفه الناس عن حياة الأساتذة.
لماذا التدريس؟
لا أحد يعرف ما يجمع بين الأفراد، ممن يرغبون أن يصبحوا أساتذة المستقبل. تقول بيرسون بأنها: منذ الطفولة وهي تحلم أن تكون أستاذة، بحيث إنها كانت تلعب دورَ المُدرسة بالدمى”، فأرادت العمل مع الأطفال من أجل إحداث تغيير في حياتهم.
وتضيف: “لأكون صريحة، على مدار 17 من الخبرة بمجال التعليم تغيرت رؤيتي بشكل جذري لهذا القطاع”.
بدلا من السؤال عن السبب الذي يجعل من الأفراد يختارون مهنة التعليم، ترد الأستاذة بيرسون بأنه من الأفضل طرح السؤال الآتي: ما الذي يُبقي الأساتذة في هذه المهنة المتعبة والشاقة؟ وتجيب بأن الداعي على البقاء، هو أن المدرسة بالفعل، هي المكان الذي يمكن أن تحدث فيه أكبر تأثير إيجابي على الطلاب”.
رغم أن لديها فرص لمغادرة التعليم والتوجه نحو مهن أخرى، إلا أن بيرسون لا تود المغادرة، لأن “الطلاب مصدر سعادة، وهم مصدر إلهام عند التعلم والتطور، فالجدل الدائر بين النجاح والفشل لديهم، أمر أكثر من رائع بالنسبة لي. فهم من يجعلونني أبقى معهم “.
مجرد يوم في الحياة
تعمل بيرسون في القطاع العمومي وفي التعليم الخصوصي، تصل إلى مقر العمل بين السابعة وربع والسابعة والنصف صباحا. قبل بدء العمل على الساعة الثامنة وخمس دقائق، في هذه الفترة البينية، تلتقي بزميلها الأستاذ الثاني والمساعد وتناقش الترتيبات النهائية للحصة المقرر إنجازها آنذاك، أو تقوم بجدولة برامج IEP أو تحضر اجتماعات الأساتذة والأطر الإدارية.
عند الساعة الثامنة وخمس دقائق، يصل الأطفال، ويبدأون في ملء نماذجهم التعليمية (نموذج يأخذونه للمنزل ويطل عليه أباءهم ويوقعون عليه). يصاحب الأستاذ الثاني المساعد البعض منهم ويعمل معهم على المهارات الحياتية، ويعمل الباقي منهم على مهارات الكتابة في العشر الدقائق المتبقية. بعد ذلك تنجز حصص في المواد التالية:
ـ افتتاح، رياضيات، العروض الخاصة (موسيقى، فنون تشكيلية، علوم، إرشاد، تكنولوجيا)، استراحة، مجموعات القراءة، قراءة جماعية، غداء/استراحة، كتابة، استراحة، الدراسات الاجتماعية/العلوم.
يتطلب التدريس الفعال تقييما مستمرا. تقول بيرسون:” إننا نراجع باستمرار التقييمات ومنجزات التلاميذ، لكي نحسن ما يمكن تحسينه، ونتجاوز تعثرات المتعلمين”. و”إذا بدأنا درسا ووجدنا أنه لا يناسب كفايات المتعلمين، فإننا نضطر إلى تغيير الدرس على الفور”.
في فترة الغذاء الذي تمتد لمدة 40 دقيقة ـ 20 د لتناول الغذاء و20 د للاستراحة ـ تنجز الأستاذة مع الأستاذ الثاني المساعد ما تبقى لها من الدروس اليومية أو الأسبوعية. إضافة إلى الاجتماعات الكثيرة “اجتماعات الأقسام التعليمية، اجتماعات المجلس الإداري، اجتماعات مع أولياء التلاميذ…الخ”. تضاف إليها الدورات التكوينية والتدريبية.
ومع نهاية كل يوم تعليمي، تترك فرصة للإدارة مع الأساتذة لتنظيم مخطط الغد، بناء على “البيانات والمعطيات المستجدة التي ينتجها الواقع التربوي التعليمي”. لا ينتهي التعليم بمجرد الخروج من المؤسسة، إذ إن أغلب تبعات التدريس ترافق الأساتذة إلى منازلهم “مكالمات هاتفية مع أولياء الأمور، نقاشات حول تصرفات تلميذ معين، محاولة فهم بعض السلوكات التي تساعد على فهم وضعية أي تلميذ…الخ”. إضافة إلى ما هو شخصي “المشاكل مع الأصدقاء، الأسرة…الخ”. كل هذا، يتطلب من الأساتذة ومنهم “بيرسون” أن تضيف يوما من العمل من أجل تجاوز ما فاتها.
أي أن حياة الأساتذة مليئة بأعمال لانهائية، ترهق وتُجهد كاهلهم.
التدريس عمل مرهق ذهنيا وجسديا
يعد التدريس أحد مهام الأستاذ فقط في القسم، ينسى أغلب الناس القضايا الأخرى التي تتعلق بالتعليم. ليس التدريس وحده ما يتعب ويرهق، بل الأمر يتعلق بالمستويات الأخرى.
يقضي التلاميذ وقتا طويلا في التعلم، وهم لا يحتاجون فقط إلى الدروس، بل إلى كفايات أخرى حياتية، تتعلق بالحياة وأساليب العيش، فأن ينسى التلميذ معطفه في البيت، “كيف يعثر التلميذ عن بديل لمعطفه؟” والجو شتوي ودرجة الحرارة صفر، فهذا مشكل يجب علاجه… أو أن تسمع قصة تلميذ عن أب له، لم يعد للمنزل أو كيف يطعم نفسه وهو جائع… هذه كلها أمور تؤخذ بعين الاعتبار.
لذا يصبح الأستاذ(ة) بالفرد أو الجمع، بالتأنيث أو بالتذكير؛ تارة مدرس، مستشار، ممرض، ولي أمر، وسيط، وصي، طاهي، صديق، حضن آمن، مسؤول عن الانضباط، صانع لمواطن المستقل.
كفاح الموظفين
يجد معظم الأساتذة في المدارس الأمريكية أنفسهم مع قليل من الدعم أو بدون دعم عند إنجاز الحصص، في أغلب الأحيان، بينما هم يقومون بهذه الأدوار المتعددة. نظرا للحظ الذي تحظى به “بيرسون” بوجود أستاذ ثاني مساعد، ووجود وفرة في عدد الموظفين، فإنها تجد وقتا لإنجاز الكفايات المعتمدة لدى المتعلمين.
تفتقد أغلب المدارس لهذا الحظ، لذلك فعلى القارئ أن يتخيل دور أستاذ، وهو لوحده، أمام مهام لا نهائية، تدريس، تعليم، توجيه… يحاول جاهدا تقديم أفضل ما لديه، إنها المأساة.
تتذكر “بيرسون” الفترة التي كانت لوحدها مدرسة بالقسم، حيث كان من الصعب التأكد من أن الكفايات المطلوبة قد أنجزت، ليتمكنوا أيضا من إنجازها لوحدهم. وفي نفس الوقت، تصمم دروسا إبداعية تساعد على إنجاز كفايات ومهارات أخرى، تحتاج إلى مزيد من التعلمات.
حتى في الفصول الدراسية المجهزة جيدا، فإن هنالك العديد من الإكراهات والصعاب، التي تؤدي إلى انهيار الأساتذة. وهذا ما يؤدي إلى رغبة الكثير من الأساتذة في ترك هذه المهنة. أنظر مقالنا:( ما بعد الكوفيد 19: الأبعاد المأساوية والتعليم (1): الحوار المتمدن-العدد: 7140 – 2022 / 1 / 19).
التدريس من أجل الاختبار
رغم أن “بيرسون” تسعى جاهدةً لإنجاز دروس تراعي الجانب التحليلي، والتفكير النقدي، والتواصل، والتعاون والإبداع…الخ. إلا أن المنظومة التعليمة تعرف تباينا بين ما يُدرس وبين ما يُطلب عند إجراء الاختبارات (فروض، أو امتحانات)، فالأمر جد صعب.
“نحن نجهز التلاميذ باستمرار بالكفايات المطلوبة من أجل امتحانات نهاية السنة، لكن هذه الاختبارات تفتقد في الكثير من الأحيان لما قمنا بالعمل عليه؛ خاصة في الكفايات المتعلقة بالتحليل أو الإبداع أو التواصل أو كيفية عملهم مع الآخرين…الخ”. كما “أنني لست مع إلغاء هذه الاختبارات لأنها تبقى مهمة في جانب ما، بالنسبة للمتعلم”.
ماذا يحتاج الأساتذة
سألت “بيرسون” ماذا تحتاجين باعتبارك أستاذة من أجل أن تقوم بعملك على أحسن ما يرام، أجابت:” أحتاج إلى مزيد من الوقت”، إلى وقت من أجل نفسي، أكون فيه متفرغة من كل شيء. لأن التعليم عمل مرهق ومجهد، فهو عمل لا ينتهي بمغادرة الأستاذ للمؤسسة، إنه عمل ذهني متواصل، حتى خارج القسم. كما “أحتاج إلى ثقة المحيط الاجتماعي والإداري بي: الآباء، القانون (مشرع القانون)، الإدارة، الشارع العام…الخ”، لأن ثقتهم ستجعلني وتجعلنا كأساتذة نقدم أفضل ما لدينا لصالح المتعلمين.
إن التفكير في الممارسة التعليمية، هو شيء نحتاجه جميعا، كما أحتاجه “أنا من أجل تطوير ممارستي التعليمية، والبقاء كنموذج يحتذى به”، عندما “يتدخل الآباء في هذه المنظومة فإنهم في كثير من الأحيان يفسدون عمل الأستاذ، ويعيقون عمله، وفي الأخير فإن المتعلم يعاني، ويكون ضحية”.
يجب “أن تهتم كل المجتمعات بأساتذتها وبقضية التعليم، لأن (ثلاثة ينذرون بمن سيود: المُعلم والمُبدع والموهوب” (فريديريك نيتشه)). اجعل من الأستاذ قدوة، وأنظر إلى كل ما ينجزه من أجل المتعلمين، بدلا من سماع الإشاعات، التي تراكمت، وعطلت دور الأستاذ في المجتمع. يمكنك أن تسأل أي أستاذ، ومن الأكيد أنه سيجيبك بكل صراحة عن هذه المأساة، وستفهم معنى أن تكون مدرسا، وستدعم رأيه بعد ذلك”.
يوافق غانغون Gangone على ما قالت “بيرسون”: ويصر على أن الأساتذة بحاجة إلى دعم متواصل، وتعويض كافي وتمويل مدرسي… وهذا ما يجب أن يناقش في إطار الرأي العام.
مستقبل التعليم
يعود النقص في عدد الوافدين على مهنة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما قبل كوفيد 19، وقد ازداد الأمر سوءا الآن، إذ إن أن أغلب الأساتذة يشعرون بالإرهاق والتعب المتواصل، والمتعلمين يلاحظون ذلك أيضا، وهذا ما يزيد من تراكم المأساة.
رغم ذلك، تقول “بيرسون” إنه يجب “علينا أن نكافح ونتحدى”، وهي تشجع الشباب على مهنة التعليم، لأنها “تحب التدريس، كما تحب التعلم أكثر”، وتحاول باستمرار الجمع بينهما، لأنها بالفعل مهنة التحديات، تقول:” فكن مستعدا من أجل هذا الكفاح المستمر، من أجل التعلم ومن أجل حياتك المهنية أيضا، فهنالك دائما من هم بحاجة إلينا.”