ما الذي يمنع الإسلاميين من الاستشهاد على أسوار القدس؟
اعتاد الإسلاميون الاقتيات على قضيتين أساسيتين: فلسطين/القدس ومدونة الأسرة/المرأة. ولم يتركوا مناسبة إلا وسعوا إلى استغلالها أبشع استغلال، ليس بهدف التخفيف من المعاناة أو تقديم العون أو المساهمة في إيجاد الحلول، وإنما خدمة لمصالحهم الضيقة واستغلالا للقضيتين في استقطاب الأتباع وتوسيع دائرة المتعاطفين استعدادا ليوم “الزحف” إما على السلطة/الدولة أو اكتساح المؤسسات الدستورية. لم تكن قضية القدس وفلسطين أولوية ولا ذات أهمية إلا بما تضفيه من “شرعية” على تأسيس هذه التنظيمات.
ذلك، أن هذه الأخيرة لا رصيد لها في النضال من أجل الديمقراطية وإشاعة الحريات وبناء دولة المؤسسات وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين والدفاع عن حقوق النساء؛ بل إنها شكلت وتشكل أكبر عائق أمام بناء الدولة الديمقراطية وسمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية.
لأجل هذا، نجدهم يستغلون القضيتين معا: المرأة وفلسطين، بهدف إرباك الدولة والعمل على إضعافها داخليا عبر توجيه كل أنواع التهم: كالخيانة، العمالة، التآمر، التخاذل. والهدف هو تهييج الوجدان العام ضد النظام/الدولة لضرب قواعدهما السياسية والشعبية والتاريخية والدينية. فهذه التنظيمات تدرك جيدا أن حصر الصراع مع النظام في المجال السياسي يقود حتما إلى إفلاسها. ولعل الهزيمة المدوية لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 8 شتنبر 2021، خير دليل. لهذا تنقل ــ هذه التنظيمات ــ الصراع إلى مجال الدين حيث تسمح لها قضيتا فلسطين والمرأة بمجال للمناورة الظرفية، قد يضيق وقد يتسع، تبعا لما تبديه الدولة من حزم. ففي مطلع سنة 2000، استغل الإسلاميون ظرفية انتقال الحكم بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، ليتغوّلوا ويستأسدوا على الدولة مستغلين صدور مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية لتصفية حساباتهم مع القوى الديمقراطية.
تغوّل لم يردعه سوى حزم النظام بالتصدي لمخططات الإرهابيين الدموية، وبردع تكتيك الصلاة في الشواطئ الذي نهجه العدليون، ثم بمراجعة جذرية لمدونة الأحوال الشخصية ضدا على مناهضة الإسلاميين. وها هم اليوم يعيدون الكرّة مستغلين القصف الإسرائيلي للبنيات العسكرية التحتية لتنظيم الجهاد الإسلامي في فلسطين دون استهداف حركة حماس. فما صدر عن حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان من مواقف، يؤكد الاستغلال السياسوي للقضية الفلسطينية التي جعلت منها كل تنظيمات الإسلام السياسي، أصلا تجاريا يوفر لهم موارد مالية مهمة، وفي نفس الوقت يضفي الشرعية على وجودها وأنشطتها.
فبعد الفشل والخيبة اللذين مني بهما الإسلاميون بسبب عجزهم عن إلغاء التطبيع، رغم كل المناورات والوقفات الاحتجاجية الباهتة إن لم تكن كاريكاتورية، يحاولون اليوم مهاجمة النظام مباشرة ليرفعوا من “رصيدهم”. ذلك أن البلاغ الصادر عن حزب البيجيدي، سواء عبر أمانته العامة أو لجنة العلاقات الدولية برئاسة الأمين العام بنكيران وبتوجيه منه، “يستنكر” لغة بلاغ وزارة الخارجية المغربية ويتهمها “بالتواطؤ” مع العدوان الإسرائيلي لخلوه “من أية إشارة إلى إدانة واستنكار العدوان الاسرائيلي ومن الإعراب عن التضامن مع الشعب الفلسطيني والترحم على شهدائه”.
مناورات البيجيديين المكشوفة ليس لها من دافع سوى “غسل العار” الذي لن تغفره لهم باقي تنظيمات الإسلام السياسي، والمتمثل في التوقيع على إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل. إذ لم تكن لهم الجرأة والشجاعة لرفض التوقيع والالتزام بما يرفعونه من شعارات. حينها جعلوا الحزب فوق القضية الفلسطينية وأهمّ من القدس.
ولا غرابة إذن، أن يتنكّر البيجيدي لمسؤولياته الوطنية والتزاماته الدستورية باحترام القرارات السيادية التي تراعي المصالح العليا للوطن وتنأى عن التجاذبات والحسابات السياسوية بين الأحزاب. فخلال رئاسته للحكومة تم سحب وزارة الخارجية من الأحزاب بسبب سوء التدبير والأخطاء الجسيمة التي كادت تخلق أزمات دبلوماسية مع عدد من الدول الشقيقة والصديقة، وإلحاقها بوزارات السيادة.
وفي تكامل للأدوار، ستتولى جماعة العدل والإحسان، على لسان قيادييها، مهاجمة النظام مباشرة، في محاولة يائسة للتعبير عن الفشل الذريع الذي منيت بها كل مناورات الجماعة لتأليب الرأي العام الوطني ضد النظام والضغط لإلغاء التطبيع. لهذا تستغل رئاستها “للهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة” للترويج لمواقفها المعادية للنظام. ومعلوم أن عداء الجماعة “للحاكمين” أسس له مرشدها بـ”رسالة الإسلام أو الطوفان” التي دعا فيها الملك الراحل الحسن الثاني إلى حظر كل الأحزاب السياسية وتنصيب الفقهاء “أولياء” على الحكام.
إن الجماعة، كباقي الإسلاميين، تتغذى على “المظلومية”؛ ومن ثم تعمل على استفزاز النظام كلما شعرت أن رصيدها المعنوي يتآكل، من ذلك مثلا دعوتها الأتباع إلى الصلاة في الشواطئ صيف 2000، أو الاعتكاف في المساجد التي تختارها خلال العشر الأواخر من شهر رمضان، أو التحريض وقيادة الاحتجاج ضد قرار إغلاق المساجد أمام الصلوات الجماعية خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا، أو استغلال حملة “الفجر العظيم” التي نظمها الفلسطينيون، لدعوة المصلين إلى الاحتجاج أمام المساجد بعد صلاة الفجر. واليوم يأتي تصريح بعض قياداتها لاستفزاز النظام بغرض اعتقالهم حتى يُظهروا للرأي العام الوطني والدولي أنهم مظلومون وممنوعون من التعبير عن مواقفهم. مناورات مكشوفة لم تعد تستفز النظام إلا حينما تتحول إلى فعل يخل بالنظام العام فيكون القول الفصل للقانون. من هنا، وأيا كانت الاتهامات للنظام “بالعمالة” و”الخيانة” فلن تَمنحهم السلطات العمومية فرص لعب دور “الضحية” من أجل القضية الفلسطينية. فمن يريد “الجهاد” و”التضحية” من أجل القدس فليفعل ذلك بعيدا عن المغرب.
إن كان الإسلاميون صادقين في شعارات “التضحية” التي يرفعون منذ عقود، فالقدس هناك، وكل السبل تؤدي إليها. غير أن واقع الحال يثبت أنهم لا يريدون “الشهادة” على أسوار القدس، ولم يجسروا على فتح باب التطوع للجهاد في فلسطين أمام قياداتهم وأتباعهم، وقد كانت جبهتا لبنان وسوريا مفتوحة، على مدى سنوات، خاصة سنوات “الخريف” العربي”، التي فضل شيوخ وفقهاء الإسلاميين إعلان النفير، من القاهرة على عهد مرسي، إلى سوريا لقتل شعبها الآمن وسبي نسائه وتهجير أبنائه ونهب ثرواته.
أليس من الجُبن والنذالة أن يحرّض مرسي ومعه جموع الإخوان وتنظيماتهم وشيوخهم على “الجهاد” في سوريا دون فلسطين وهو على حدود مشتركة معها؟ أليس من الخذلان أن يرسل البيجيديون والعدليون أبناءهم للدراسة في تركيا وأوروبا بدل تعزيز صفوف حماس وحزب الله للجهاد ضد إسرائيل؟ ألم تكن الأنفاق نحو غزة مفتوحة لتهريب المحروقات والأسلحة ثم الإرهابيين الذين جندهم مرسي لتخريب مصر؟ ألم يقل بنكيران ذات لقاء مع أتباعه “أنا جنتي وبستاني في صدري أينما رحت لا تفارقني. أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”؟ فما الذي يحول بينه هو وأتباعه وأبناؤه وبين “الخلوة” في سجون إسرائيل أو “الشهادة” على أرض فلسطين أو “السياحة” بمخيمات اللاجئين؟ حين دعوتم للجهاد في سوريا أكّدتم للعالمين أن قضية القدس لم تعد مربحة.
خلاصة القول، فمهما قدّم النظام المغربي من دعم مادي وديبلوماسي للقضية الفلسطينية، لن يرْض عنه الإسلاميون الطامعون/الواهمون بإقامة “دولة الخلافة” على أنقاض الدولة المدنية. سيظل الإسلاميون يدينون مواقف المغرب ويستنكرون بلاغات وزارة الشؤون الخارجية مهما كانت شدة لهجتها. حقيقة أقرها القيادي بالجماعة، عبد الصمد فتحي، ورئيس “الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة” “أصبحنا نترحم على بيانات الشجب والإدانة التي كنا ندينها لأنها لا تترجم إلى فعل وعمل، حتى هذه الكلمات بخلوا بها على الفلسطينيين وعوضوها بلفظة القلق”.