لما يصيح فقهاء التطرف: إلا دار الإسلام!!
إن حادث اختفاء الإمام الفرنسي من أصول مغربية، حسن إكويسن، هربا من تنفيذ قرار ترحيله إلى المغرب الذي صادق عليه مجلس الدولة الفرنسي، يكشف عن مدى النفاق الذي يتميز به شيوخ التكفير المنتشرون في بلاد الغرب. فهم لا يكفّون عن تكفير تلك المجتمعات والتحريض ضد قيمها وقوانينها ومؤسساتها الدستورية التي يعتبرونها “شركا” لكونها تضمن للمواطنين حق اختيار القوانين التي تحكمهم والمشاركة في صياغتها. كل أولئك الشيوخ أجمعوا على نعت الدول الغربية بـ”دار الحرب” مقابل دار “السلم” التي هي الدول الإسلامية. تصنيف وفتاوى سرعان ما يتنكر لهما كل شيخ تكفيري صار موضوع متابعة قضائية أو قرار ترحيل من طرف الحكومات الغربية. إذ ما أن يصدر قرار المتابعة بتهم التطرف والتحريض على الكراهية وتجنيد الإرهابيين حتى يستنجد أولئك الشيوخ بالهيئات الحقوقية الغربية ويستمسكون بالقوانين الأوربية التي لطالما كفّروها وحرضوا على خرقها وإسقاطها لأنها مخالفة لشرع الله وأحكامه.
ففي سنة 2005، لم يجد ياسر السري، وهو أحد شيوخ التطرف الذي كان مطلوبا للقضاء المصري لصلته بالإرهاب، من الثناء على مصداقية القوانين البريطانية وعدالة قضائها بعد قرار توني بلير، رئيس الوزراء حينها، بترحيل شيوخ الكراهية كالتالي (هؤلاء الناس جاءوا إلى هذه البلاد، فروا بدينهم من بطش حكومات قمعية.. وترحيلهم الآن من قبل الحكومة البريطانية يعتبر غدرا وخيانة لهم.. أعتقد أن توني بلير في هذا غير محق لأن قوانين اللعبة تخضع هنا في بريطانيا، الذي هو بلد عريق في حقوق الإنسان، إلى القضاء وإلى قيم وتقاليد أسست على أساسها ونشأت المملكة المتحدة على أساس احترام حقوق الإنسان).
نفس الموقف اتخذه شيوخ آخرون على رأسهم أبو قتادة وأبو حمزة المصري. هذان الشيخان المتطرفان كانا مصدر تحريض على تنفيذ هجمات 11 سبتمبر ومباركة لها عند حدوثها. ذلك أن عددا من مخططي ومنفذي الهجمات كانوا يحضرون الدروس والمحاضرات والخطب التي كان أو قتادة وأبو حمزة يلقيانها في مسجد “فنسبري بارك” بشمال لندن الذي كان يشرف عليه أبو حمزة. هذا الأخير وصلت به الجرأة إلى إعلان عزمه على إقامة الخلافة الإسلامية من لندن، وبالضبط من “قصر باكنغهام”.
بل إن أبا قتادة كان يحمّس الشباب حتى إنه أعلن أكثر من مرة قبل اعتقاله «إني أشم رائحة الجنة واني استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه»، و«هبي يا رياح الجنة وذري الانوار» و«الجنة تحت ظلال السيوف وجعل رزقي تحت ظل رمحي». كما دفعه هذيانه إلى السعي لإقامة الخلافة في البيت الأبيض بالولايات المتحدة الأمريكية. جميع هؤلاء، سواء وُلدوا في أوربا، كما هو الحال بالنسبة للإمام المتطرف حسن إكويسن، أو لجأوا إليها أمثال أبو قتادة وأبو حمزة المصري، وعمر عبد الرحمن وعمر بكري وغيرهم، يعلنون عن كراهيتهم للغرب وتحريضهم ضد الشعوب الأوربية/الغربية. لكن بمجرد تهديدهم بالترحيل حتى يعلنوا تمسكهم بالقوانين الغربية “لعدلها” و”إنسانيتها”.
لا أحد منهم قرر طواعية مغادرة “دار الحرب والكفر” إلى دار السلام والإسلام. لقد وصفوا المجتمعات الغربية بالانحلال والكفر وإباحة المحرمات دون أن يسألوا أنسفهم عن الأسباب التي تلزمهم بالعيش فيها. إذ ليس كل هؤلاء تطاردهم عدالة دولهم. ولنفترض أنهم مطلوبون للعدالة إما لفتاوى تكفيرية أو تحريض على العنف والإرهاب باسم “الجهاد”. وفي كلتي الحالتين وجب عليهم مواجهة العدالة والقوانين بكل قناعة وثبات. ولعل الجبن والهروب ليس لهما من معنى سوى أحد أمرين: الأول ــ إما أن الشيوخ غير مؤمنين بوجوب ما يدعون إليه ويحرضون عليه من كراهية وعنف حتى وإن كان في تصورهم “أمر بالمعروف ونهي عن المنكر”، وهو في الواقع عكس ما يعتقدون إذ أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. والدليل أنهم يفرون ولا يمتلكون الشجاعة لمواجهة المصير خوفا على أرواحهم، لأنهم يعلمون أن ما قاموا به يهدد أمن واستقرار الأوطان؛ وهو في حكم الشريعة “حِرابة” شدد القرآن الكريم حكمها بما يتوافق مع خطورة الترويع الذي تحدثه في النفوس وفي المجتمع.
لهذا أمر الله تعالى بـ(أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) المائدة: 33. الثاني ــ إما أنهم يعتبرون نعيم المجتمعات الغربية أهم وأضمن من نعيم الجنان الذي يبشرون به من “يستشهدون” قتالا أو انتحارا في عمليات تفجيرية أو إعداما من طرف من يسمونهم بـ”الطغاة”. فبعد كل فتاوى التكفير والكراهية ضد المجتمعات الغربية والتحريض على قتل شعوبها وتدمير حضارتها وسبي نسائها، يتخلى هؤلاء التكفيريون عن عقائدهم التي أعلنوا عن استعدادهم للموت في سبيل تحقيقها، مفضلين الحياة الدنيا وزينتها عن رضوان الله وجنانه. ففي الأمرين معا يظهر نفاق الشيوخ وتجارتهم بالدين وبأرواح ضحاياهم من الأبرياء ومن الشباب الغفل الذين تم استقطابهم وتجنيدهم لتنفيذ العمليات الإرهابية.
فلا يهم يحبون “الاستشهاد” في سبيل الله حسب عقائدهم المتطرفة، ولا هم يرغبون في العيش وسط المسلمين بـ”دار السلم” فيترنمون بالآذان للصلوات ويستمتعون بمشهد المصلين وهم يعمرون المساجد؛ كما لم يجرؤ أي منهم على طلب اللجوء إلى أفغانستان والعيش ضمن نظام طالبان فينعم بما ستوفره الإمارة الإسلامية من “أمن” و”رخاء” و”عدالة” بفضل تطبيق الشريعة. لقد استبشروا بسيطرة طالبان على أفغانستان وفرحوا دخولها القصر الجمهوري لكنهم يرفضون الاستجابة للدعوة التي وجهتها قصد العيش تحت حكمها. لسان حال كل هؤلاء الشيوخ يصيح “نريد العيش في أي بلاد إلا بلاد الإسلام.”
إن قضية الإمام الفرنسي ذي الأصول المغربية الذي فضل العيش طريدا في حضن المجتمعات التي يكن لها الكراهية ويحرض على تدميرها بدل العيش وسط المسلمين، هي قضية فرنسية داخلية لا علاقة للمغرب بها. فالإمام ازداد بفرنسا وتربى بها ودرس في مؤسساتها. إنه نبتة فرنسية صرفة. إذ لم يرسله المغرب لتأطير مسلمي المهجر ولا تربى في أحضانه ولا تشبع بثقافته حتى يمكنه قبول ترحيله. وعلى فرنسا أن تتعامل معه كفرنسي لم يطلب الجنسية حتى تسقطها عنه، ولكن اكتسبها بالولادة. لهذا من حق المغرب، بل من واجبه أن يرفض تقديم حل لمشكل فرنسي ـ فرنسي. إن فرنسا تملك من القوانين والمؤسسات ما يجعلها تتعامل مع قضية الإمام كما تعاملت مع قضايا مماثلة أو أكثر تعقيدا تورط فيها فرنسيون من أصول أجنبية.