كلمات ليست كالكلمات
عدل المرشح الرئاسي جلسته واستدار بهدوء ليواجه خصمه بجملة صغيرة، مدروسة بعناية ستدخل تاريخ المناظرات الانتخابية:
“لا يا سيدي فرانسوا ميتران، ليس لكم الاحتكار الحصري للقلوب”.
انتهت المناظرة، و بعدها ذهب الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع ليجعلوا من صاحب الجملة فاليري جيسكار ديستان رئيسا للجمهورية الفرنسية سنة 1974.
انهزم اليساري فرانسوا ميتران بعدما فشل في اقناع الناخبين أن حزبه لوحده، دون غيره، يمارس السياسة بالحب والحنان والقلب. وقد يكون فشل، ومن دون أدنى شك، لأسباب أخرى كذلك.
يمتلك السياسيون فن الخطابة، و بوسع أحدهم أن يقنع مخاطبيه أن السماء صفراء و ن البرسيم يزيد ذكاء الإنسان.
يعتمد الخطيب على كلمات مختارة بعناية فائقة ونبرة صوت مميزة وأيضا تعابير وجه مقنعة.
لا مانع أبدا من دموع تنفجر بين الفينة والأخرى أمام الجموع الغفيرة، فتقلب الموازين وتجعل الأتباع يقسمون برأس صاحبهم، ويبوؤونه مكانة القديسين والأولياء.
رغم قوة وتأثير الكلمات الرنانة والجمل المطرّزة بعناية، يحدث أن يفقد رجل السياسة أعصابه، فيظهر المستور وتنكشف النوايا الحقيقية والوجه المخفي وراء خداع الخطابات.
خلال أشغال الدورة الاستثنائية لحزب التقدم والاشتراكية التي عقدت يوم الجمعة 04 أكتوبر 2019، لم يتمكن الزعيم محمد نبيل بنعبد الله من السيطرة على أعصابه في مواجهة نائب من حزبه يدافع عن خروج مشرف من حكومة الإسلاميين.
انفجر أمين عام الحزب بكلمات ساقطة من قاموس الشارع، دون مراعاة لوجود كاميرات الصحافيين.
أنصف القدر الغريم المعارض وجعل الزعيم والحزب يغادران الحكومة من الباب الخلفي، وانتهى مشوار الزعيم الحكومي والسياسي بعد أن طاله إبعاد رسمي من المناصب العليا، هو وآخرون.
أما زميل آخر من نفس الحزب، فقد صرح في غفلة من رقابة السياسي الصارمة على لسانه، أنه يسوس المغاربة كما تعود أن يرعى الغنم صغيرا.
احتج عليه البعض، وسخر منه البعض الأخر، دون أن يتضح جليا قصد الوزير السابق من مثل هذا التصريح المبهم والمثير للجدل.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، لم يتمكن بعد عديد من المتابعين من فك شفرة جملة نطق بها رئيس الحكومة السابق، في مواجهة نائبة في البرلمان، وترجمتها بالعربية الفصحى: “ما لديّ (أو ما أملك) أكبر مما لديك…”
ربما، كان يقصد اللسان، أو أشياء أخرى قد تسقطنا، لا قدر الله، في تأويلات تخدش الحياء العام وتجرنا نحو كلام فاحش مبتذل.
طبعا، هناك بون شاسع بين جمل وأقوال رائعة دخلت التاريخ، وأخرى ركيكة ومنحطة طبعت مرحلة سياسية هي أيضا فاشلة.
فالكلام وحده لا يصنع النجاح إذا لم يكن مقرونا بالعمل الجاد وبالبحث الدؤوب عن خلق المزيد من الرخاء والرفاهية للشعب بكل أطيافه.
في سيرته الذاتية “السلطة والحياة” (1998)، يعترف فاليري جيسكار ديستان أنه استطاع أن يصبح رئيسا بفضل جملة واحدة من عشر كلمات، في إشارة إلى رده المشهور.
على الأقل، إن كنتم لا تحسنون السياسة، اسمعونا كلاما جميلا وبليغا. وذلك أضعف التدبير.