مدارات

في ضيافة سعادة القضاة ورحاب الفضاء الحقوقي

أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب بلاغا بتاريخ 14 شتنبر 2020، يتعلق بالرد على بلاغ نشرته منظمة العفو الدولية (أمنيتسي) تطالب فيه بإطلاق سراح الصحافي عمر الراضي، وتناشد مدافعي حقوق الإنسان عبر العالم بتوجيه عرائض ومناشدات لرئيس الحكومة المغربية والسلطات العمومية تحت موضوع: “الإفراج عن الصحافي عمر”.

بلاغ المجلس الأعلى يدفعنا إلى مناقشة السياسة الحقوقية ببلادنا كسياسة عمومية، وذلك انطلاقا من التوضيحات التي قدمها المجلس، سواء في ما يتعلق بتعامل الدولة مع الهيئات الحقوقية، أو في ما يتعلق بشروط وضمانات المحاكمة العادلة.

أولا: بخصوص إشكالية التأثير على القضاء واستقلاليته

استند بلاغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية على دعوة منظمة “العفو الدولية” المجتمع الدولي إلى توجيه مناشدات إلى رئيس الحكومة من أجل الإفراج عن الصحافي عمر الراضي، حيث أكد أن بيان المنظمة يعد “مساسا صارخا باستقلالية القضاء”، وأنه “يتجاهل كون السلطة القضائية بالمغرب مستقلة عن الحكومة بمقتضى الفصلين 107 و109 من الدستور”.

1– اختصاصات التفاعل مع الهيئات الدولية في النظام القانوني المغربي

نذكر باختصاصات وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان بمقتضى المرسوم رقم 2.19.954، الذي نصّ، في المادة الثالثة، على أنه “يتولى السلطة على مجموع الهياكل المحدثة بموجب المرسوم رقم 2.12.582″، أي المرسوم المحدث للمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، حيث جاء في الفقرة الأخيرة من المادة السابعة منه، أن السلطة الحكومية تتولى “تتبع التقارير الصادرة عن الهيئات الوطنية أو الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بالمغرب، والقيام عند الضرورة، بتنسيق إعداد مشاريع الأجوبة عليها”، وباعتبار أن صاحب الاختصاص الأصلي هو رئيس الحكومة، قام بتفويض اختصاصاته لوزير حقوق الإنسان، فإن السلطة التنفيذية المشكلة من رئيس الحكومة ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، هما المخاطبان مباشرة مع الهيئات الحقوقية الوطنية والدولية، وذلك بمقتضى النظام القانوني والدستوري المغربيين.

ويترجم هذا الاختصاص في عشرات المراسلات والأجوبة بين الحكومة المغربية والهيئات الدولية منها الحكومية ومنها غير الحكومية، وباعتبار أن المنظمات غير الحكومية الدولية تتقاسم مع المنظمات الحكومية الدولية نفس الأدوات والمساطر، نذكر منها ما يتعلق بالشأن القضائي المغربي:

النموذج الأول: قرار الفريق العامل المعني بالاعتقال التعسفي رقم 78/2019 بخصوص السيد منير بن عبد الله، فبعد ملاحظات الفريق، قدّمت الحكومة المغربية الأجوبة التالية: “في ما يتعلق بالادعاءات المتعلقة بالمحضر، فإن الحكومة تنفي بشكل قاطع أي تعديل للوثائق الإجرائية وأن السيد بن عبد الله وقّع على المحاضر وفق المساطر المعمول بها، بينما كانت الملاحظة الفنية في 12 سبتمبر 2017 من قبل ضابط الشرطة القضائية المكلف بالتحقيق ومن قبل فني متخصص، ولم يتم إضافة أو تعديل أي صفحة، بما في ذلك محضر جلسة 13 سبتمبر 2017 ، وتضمنت تذكيرا بحقوقه المنصوص عليها في المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية، وكذا محضر استجوابه وأقواله، كما تؤكد الحكومة أن السيد بن عبد الله أثار لأول مرة ادعاءات بالتهديد بالتعذيب والابتزاز أمام محكمة الاستئناف، دون أن يذكرها أمام النيابة العامة أو المحكمة الابتدائية”.

وبعد تدقيق المعطيات، دعا الفريق العامل حكومة المغرب إلى “اتخاذ التدابير اللازمة لتصحيح وضع السيد بن عبد الله دون إبطاء وجعله متوافقا مع المعايير الدولية المعمول بها، ولا سيما تلك المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وذلك من خلال الإفراج الفوري عن السيد بن عبد الله ومنحه الحق في الحصول على جبر، بما في ذلك في شكل تعويض، وفقاً للقانون”.

النموذج الثاني: قرار لجنة مناهضة التعذيب رقم 817/2017 المتعلق بشكوى السيد علي أعراس، حيث ردت الحكومة “وفي 18 كانون الثاني/يناير 2011، مَثل صاحب الشكوى، بمساعدة محاميه، للمرة الثانية، في جلسة استماع مفصلة، أمام قاضي التحقيق، فلم يثر أثناءها أيضاً أي ادعاء يتعلق بالتعذيب أو سوء المعاملة. كما أن محاميه لم يثر ادعاءات من هذا القبيلً، ولم يلحظ عليه قاضي التحقيق أي أمارة يمكن اعتبارها من آثار التعذيب أو سوء المعاملة. وفي أيار/مايو 2011، أي بعد مرور ستة أشهر تقريباً على أول جلسة استماع له من قبل قاضي التحقيق، قدم صاحب الشكوى شكوى يدعي فيها أنه تعرض للتعذيب. وأجرى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط تحقيقاً، لكن الشكوى حُفظت لأنه لم يُعثر على أي دليل على صحة الادعاءات. وأدت نتائج التقييم الطبي الذي أمر به الوكيل العام للملك والذي أجراه أربعة أطباء متخصصين في الطب الشرعي والأعصاب وجراحة العظام والصدمات، وطب الأنف والأذن والحنجرة، إلى استنتاج مفاده أن ادعاءات صاحب الشكوى كاذبة، ومن ثم حُفظت الشكوى”.

وبعد فحص دقيق للمعطيات قررت اللجنة “عملاً بالفقرة 5 من المادة 118 من النظام الداخلي للجنة، تدعو اللجنة الدولة الطرف إلى إبلاغها، في غضون 90 يوماً من تاريخ إحالة هذا القرار إليها بالتدابير التي اتخذتها في إطار متابعة الملاحظات المذكورة أعلاه. ويجب أن تشمل هذه التدابير نقل صاحب الشكوى إلى نظام جماعي في سجن أقرب إلى أسرته، وفتح تحقيق نزيه وشامل في ادعاءاته، وتعويضه تعويضاً كاملاً وكافياً وعادلاً عن جميع انتهاكات الاتفاقية التي خلصت إليها وعواقبها عليه”.

النموذج الثالث: التقرير الختامي للجنة مناهضة التعذيب بخصوص النظر في التقرير الرابع للمغرب، حيث أكدت اللجنة أنه “تُكرر موقفها الذي يفيد بأن الدولة الطرف أي المغرب لا تستطيع، في أي حال من الأحوال، الاعتماد على الضمانات الدبلوماسية باعتبارها ضمانات حيال عدم حدوث التعذيب أو سوء المعاملة عندما تكون هناك أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص قد يتعرض للتعذيب إذا عاد إلى بلده”، وأنه “ينبغي للمغرب أن يحترم التزاماته الدولية وأن يمتثل للقرارات النهائية والقرارات المؤقتة التي تصدر عن اللجنة في القضايا الفردية المعروضة عليها بموجب المادة 22 من الاتفاقية”، مع العلم أن الأمر يتعلق بشخصين، وهما السيد أليكسي كالينيتشيكو والسيد كتيتي، اللذين صدر في حقهما حكم قضائي حائز الشيء المقضي به وذلك بتسليمهما لبلديهما الأصليين.

النموذج الرابع: يتعلق بالتقرير النهائي للجنة حقوق الطفل، في ما يتعلق بالبرتوكول الاختياري لحماية الأطفال أثناء النزاعات المسلحة، حيث جاء في التقرير أنه “تحيط اللجنة علماً بالمعلومات التي قدمها وفد الدولة الطرف ومفادها أن تحقيقات شاملة أجريت بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية في اعتداءات جنسية على أطفال ارتكبها مغاربة من قوات حفظ السلام في كوت ديفوار في عام 2007، لكنها تشعر بقلق بالغ إزاء عدم اتخاذ تدابير لمنع تلك الاعتداءات، والعقوبات الخفيفة التي طُبقت على الأشخاص الذين أدينوا بارتكابها، وعدم وجود معلومات عن التعويضات التي دفعت للضحايا”.

وأضافت اللجنة “تحث الدولةَ الطرفَ على أن تتخذ على وجه الأولوية جميع التدابير اللازمة لمنع جنودها العاملين في إطار عمليات حفظ السلام من إيذاء الأطفال، وأن تضمن معاقبة من ثبتت إدانتهم عقاباً يتناسب وخطورة جرائمهم. كما تحثها على أن تقدم في تقريرها الدوري المقبل بموجب الاتفاقية معلومات دقيقة عن التعويضات المدفوعة للضحايا”.

* * *

من خلال هذا النماذج المقدمة، على سبيل المثال لا الحصر، والتي منها من انتقد حكما قضائيا، ومنها من طالب بوقف متابعة قضائية جارية، ومنها من أدان المسطرة القضائية، كانت الحكومة هي المخاطبة، وهي التي أجابت.

إن الجهة الوطنية المخاطبة على المستوى الدولي هي السلطة الحكومية، وبمقتضى الفصل 89 من الدستور، فالحكومة تمارس السلطة التنفيذية، مما يطرح معه سؤال: هل يمكن أن يوجه المجلس الأعلى للسلطة القضائية بلاغا أو مراسلة ضد الحكومة المغربية تخبرها أنها عندما تتقدم بأجوبة أمام المنتظم الدولي، فإنها تدخل في صميم العمل القضائي، وأنها تمس بشكل صارخ استقلالية القضاء،، أو أن يصدر المجلس بلاغا موجها إلى الأمم المتحدة بكون ملاحظاتها وتوصياتها ذات الصلة بالشأن القضائي تدخّلا في مسار “المحاكمة العادلة”، أو بلاغا موجها إلى سفراء الدول التي تنتقد استقلالية القضاء والأحكام في المغرب أثناء محطة الاستعراض الدوري الشامل، وبكونهم سفراء وهيئات سياسية تتدخل في الشأن المغربي وفي “القضاء المستقل”، بل توجد توصيات أممية تتجاوز عمر الراضي وتمس بوحدتنا الترابية في أحداث أكديم إزيك، حيث اضطر المغرب إلى تعديل قانون العدل العسكري، حتى لا يحاكم المدنيين أمام المحاكم العسكرية.

وتجدر الإشارة إلى أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أشادت بدور المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان بالمغرب كآلية تنسيق بين حكومية موكول إليها التفاعل مع الهيئات الدولية الحكومية وغير الحكومية، واعتبرتها من التجارب الفضلى، التي يجب الاسترشاد بها.

2– برتوكولات الدبلوماسية الحقوقية

يعلم الجميع أن اختصاص الإفراج عن معتقل، سواء صدر في حقه حكم قضائي أو يتابع في حالة اعتقال احتياطي، هو اختصاص ملكي وليس لرئيس الحكومة، وفي تجارب عديدة أخرى سبق لمنظمة العفو الدولية أن وجّهت مراسلات ومناشدات إلى رؤساء دول، إلا أنها في الحالة المغربية، وتقديرا للمكانة الرفيعة والسامقة للملك، فإنها لا تُدخله في مثل هذه القضايا، وحتى عندما تضطر إلى التوجه للملك، فإنها تراعي مكانته السامية في البناء الدستوري، وتخاطبه بما يليق بمكانته، ففي يوليوز 2015 أطلقت المنظمة مناشدة موجهة للملك قصد التدخل لوقف التعذيب والإفلات من العقاب، ومن بين ما جاء فيها “نحيي التزامكم بعدم التسامح مع التعذيب”، فبالرغم من وعودكم “إلا أن مزاعم التعذيب والتعرض لمختلف أشكال سوء المعاملة الممارسة من طرف قوات الأمن لا تزال حاضرة في ظل غياب الضمانات القانونية لمواجهة تلك الممارسات”، وبررت المنظمة توجيه المناشدة مباشرة للملك نظرا لكون “الحوار بين المنظمة والحكومة المغربية لم يصل إلى أي نتائج ملموسة”، و”نظرا للمكانة الدستورية للملك محمد السادس، باعتباره حامي الحريات والحقوق وإعلانه بكونه لن يتسامح مع التعذيب”، وأردفت المنظمة مستعطفة “نلتمس من جلالة الملك أن يقوم بما يلزم من إجراءات وتدابير باعتبار صفته الدستورية، وذلك لوضع حد لكل تلك الممارسات المخلة بكرامة الإنسان حتى يكون المغرب فعلا وفيا لالتزاماته الدولية والوطنية ولتطلعات المواطن المغربي في عيش كريم يضمن كرامته، ولوضع المغرب في السكة التي رسمها دستور 2011” (حوار مع المدير العام التنفيذي لأمنيتسي المغرب بموقع “اليوم 24” بتاريخ فاتح غشت 2018).

3– الممارسات الجيدة عبر العالم

نقتصر في هذا المحور على دور المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي أوقفت مئات القرارات الصادرة عن الدول الأوروبية ومحاكمها، حمل أصحاب الشكاوى تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية دولية أخرى وقصدوا التحكيم الأوروبي.

فقبل أشهر، وبالضبط في 11 يونيو 2020، أصدرت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان حكما لصالح نشطاء مؤيدين لفلسطين وداعين لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، حيث قضت المحكمة الأوروبية بالإجماع بأن “الإدانة الجنائية التي حكم بها القضاء الفرنسي في عام 2015 لناشطين دعوا لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، تنتهك المادة 10 الخاصة بحرية التعبير من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”، (مقتطف من بلاغ حركة بي دي إس، مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات).

وقد استجابة الحكومة الفرنسية، وألغت قرار المحكمة الوطنية بالتزامها بتعهداتها الدولية.

ثانيا: إشكالية حقيقة المتابعة والانتقادات الباطلة بخصوص عمر الراضي

إن الحيثيات التي اعتمد عليها المجلس الأعلى للسلطة القضائية لتبرير متابعة الصحافي عمر الراضي في حالة اعتقال، تعتبر صك اتهام، وضربا لمبدأ قرينة البراءة، فأن يصدر مثل هذا البلاغ عن مؤسسة النيابة العامة “قد” يكون مقبولا، ولكن عن المجلس الأعلى فهو غير مقبول، لأنه مجلس القضاء الواقف والقضاء الجالس، والقضاء الجالس حسب علمنا لم يقل كلمته بعد، وبالتالي فقد حسم بشكل نهائي في الإدانة في انتظار العقوبة.

بلاغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي لم نجد سندا له في القانون التنظيمي رقم 100.13، سوى اختصاصات ترقية القضاة وانتقال وانتداب القضاة، ومسطرة التأديب، واستقالة القضاة وإحالتهم إلى التقاعد، يضاف إلى سلسلة استهداف عمر الراضي ابتداء، والحركة الحقوقية انتهاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock