مدارات

فرنسية…؟ إنجليزية….؟ جدل لغة التدريس

كلما حضر موعد الدخول المدرسي، ببلدنا الحبيب، إلا وانطلق النقاش حول لغة التدريس، وأي اللغات تصلح لأن تكون لغة العلوم، وقد سبق وخضت في هذا البحر وكتب في هذا الموضوع، مقالات سميتها “العربية الشريفة و العامية” تم نشرها على صفحات موقع “أنصار السنة” بين سنتي 2018 و 2019، وقد قضيت نحبي في بيان الأسباب الداعية الى إلغاء العربية وتهميشها، وقد حرصت جهدي في إظهار ما يمكن إظهاره حول مآلات هذه النار التي تم إيقادها للحط من قدر لغة عدنان والغض من ذكر لسان قحطان، وحين عاد هذا النقاش للظهور مرة أخرى مع بداية الدخول المدرسي، وكعادتها، نازعتني  نفسي بألا أخوض فيه، وهي تذكرني بمثل مغربي عامي، ماجن على عذوبته وبلاغته، ولكن للقلم أحكامه.

وقد دار النقاش قديما، حول أن لغة العلم هي الفرنسية والانجليزية، وليست العربية، وقد تلخصت الحجج في حجتين، فإما إحداهما، فتقول : “أن من حق المغاربة تعلم اللغات”، و أما الأخرى فمعناها: “أنه على المغاربة دراسة العلوم باللغات الاجنبية حتى يتمكنوا من مسايرة التطور التقني والتقدم العلمي”، وعلى هذين الحجتين بنا نواب الأمة قرارهم بالتصويت لصالح التدريس بالفرنسية، واليوم فتح النقاش لأجل الإعراض عن الفرنسية والأخذ بالإنجليزية، لأن هذه هي لغة العلم وأما الأولى فلا، وسأرجع في هذه المقالة لإعادة مناقشة الحجتين المذكورتين، لكن قبل ذلك أريد أن أناقش مسألة الإعراض عن الفرنسية والإقبال عن الإنجليزية باعتبارها هي لغة العلم.

بالأمس القريب كانت الفرنسية هي لغة العلم، ثم بعده أصبحت الفرنسية والإنجليزية معا هما لغتي العلم، وأما اليوم فلم يعد غير الإنجليزية هي لغة العلم، ودعني أشرح لك مقصود “لغة العلم” عند القوم، وذلك من خلال تتبعي لهذه القضية عبر سنوات طوال، منذ نشأتها في نهاية القرن19  إلى الآن ، فلغة العلم لا يقصد بها عند القوم، اللغة القادرة على مساعدة العقل في إنتاج العلم، أو اللغة التي يصح بها الابانة بها عن دقائق العلم، أو يمكن بها وضع المناهج العلمية لعلم ما، لا يا صاحبي، لا يقصد بها شيء من هذا، ولا مما يدور في فلكه، مما يوحي به إليك قولهم “لغة العلم”، أول يهجم عليه عقلك حين تسمع تلك الجملة، وإنما يقصدون بها شيئا آخر مخالف لما قدمت لك من مفهومها وما يتبادر إلى الذهن حين سماعها، فهم يقصدون بقولهم “لغة العلم” اللغة التي يملك أهلها والناطقين بها، أساليب إنتاج العلم، و لديهم أبحاث ودراسات العلمية.

فلما كان الفرنسيون يملكون أسباب العلم كان القوم يقولون أن لغة العلم هي الفرنسية، وحين بدأ البساط يسحب من تحت أقدامهم، ورأينا أن الناطقين بالإنجليزية يملكون عنان التقدم العلمي، قالوا إن لغة العلم هي الإنجليزية، وسيستمر حال أبناء أمتنا على هذا النحو من الترف في القول، حتى اذا املتك قوم آخرون زمام العلم، قالوا إن لغة هؤلاء هي لغة العلم.

وفي هذا الذي حدثك به، من انتقال أبناء قومنا من لغة إلى أخرى، دليل على أن العربية الشريفة بريئة مما رموه بها، لأنهم لو أقاموا ثورة علمية، لقيل عن لغتهم أنها هي لغة العلم، فهم عجزوا وقعد بهم الفشل، فجعلوا من العربية الشريفة مشجبا يعلقون عليه فشلهم، ويبررون به عجزهم، وذلك أن اللغة تقوم بقيام أهلها بها، كما قام الفرنسيون بلغتهم والإنجليز بلغتهم.

إن تنقلنا من لغة إلى أخرى، ليس إلا زيادة في التبعية لأهل تلكم اللغات، ومجمل ما سنتوصل إليه من دراسة العلوم بلغاتهم، هو أن نكون خلفهم، وذلك كلما توصل الفرنسيون إلى بحث علمي أخذناه منهم، وكلما أنجز الإنجليز تقنية جديدة قلدناهم، وكما ترى فالقضية كلها إتباع في إتباع، وخروج من خضوع لأجل الدخول في خضوع آخر، وفي النهاية لن نجد أنفسنا إلا غارقين في مستنقعات الذل والانحطاط أكثر مما نحن غارقون، وفي هذا رد مختصر على الحجة الثانية فتدبر.

أما حجتهم الأولى، والقائلة في مجملها، أن من حق المغاربة تعلم ودراسة اللغات، فنقول: إن هذا لهو الحق، بل وليس فقط من حق المغاربة وحدهم دراسة اللغات، بل ذلك الحق يشمل كل العرب وكل بني آدم، بل وحتى غير بني آدم، من حيوانات ونباتات ، وغيرهم من الكائنات التي تتاسم معنا العيش والحياة على ظهر الأرض، ولكن الذي لم يدركه نواب الأمة هو أنه هناك فرق كبير بين تدريس اللغات والتدريس باللغات، فتدريس اللغات شيء، والتدريس باللغات شيء مخالف تماما، و نقاشنا لم يكن نهائيا حول مسألة تدريس اللغات، وإنما كان حول التدريس باللغات.

نحن لا ننكر تأخرنا العلمي والتقني، ولكن دراستنا للعلوم بالفرنسية لم تسهم في شيء غير الزيادة في التأخر والخضوع والحاجة، كما لن تفيدنا دراستها بالإنجليزية غير الزيادة أكثر في التأخر والخضوع والحاجة، لكن السبيل إلى تقدمنا العلمي لن يكون إلا بثلاثة أمور، فأما الأول: هو الاهتمام بالعربية الشريفة اهتماما بالغا، وذلك أنها توافق سير العقل البشري، وتجيد الإبانة عنه، وسعها قديما الإبانة عن عقول الفرس والروم واليونانيين، وأما الثاني: فيجب الاهتمام بالترجمة، وأن تكون الترجمة تتضمن روح العربية والإنسان العربي، كما فعل قديما فتسيدت الأمة العالم، ولا أرى أن توكل هذه المهمة إلى مجمعات اللغة العربية، فتاريخها تشوبه الشبه، فهي لا تؤتمن على لغة الأمة وعلومها، وأما الثالث: وهو الأهم ويتجلى في رصد الأموال الكثيرة لأجل البحث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــت

كاتب مغربي, باحث في العقائد والمدارس الفكرية، والاستشراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock