خطوة تاريخية بامتياز تلك التي خطاها الفريق الوطني نحو ربع نهائي كأس العالم لكرة القدم. إنجاز فريد من نوعه على المستوى العربي لم يأت صدفة أو من فراغ، بل بفضل جهود جبارة وقتالية عالية لفريق منسجم تحت إشراف مدرب مغربي روحا وانتماء وثقافة. فريق، كما أفلح في تحقيق الفوز على منافسيه، نجح في تفجير الروح الوطنية والاعتزاز بالوطن وبرموزه لدى كل فئات الشعب المغربي، خصوصا الأطفال والشباب الذين لم يعيشوا أحداثا وطنية كبرى. إنها لحظة تاريخية يثبت فيها الفريق الوطني قدرته على توحيد كل فئات الشعب المغربي وجعلها تتفقد رافعة الأعلام الحمراء وتردد النشيد والأغاني الوطنية في الشوارع والساحات العمومية فرحا وابتهاجا بالانتصار الكروي.
كرة القدم إكسير الفرح والوطنية
مخطئ من لازال يعتقد أن كرة القدم أفيون الشعوب وأداة لاستغلالها؛ بل صارت إكسير الفرح والوطنية التي جسدتها جموع المواطنات والمواطنين بكل عفوية وتلقائية. كم هو رائع أن نرى الفتيات والنساء يملأن المقاهي لمتابعة مباريات الفريق الوطني، أو يقدن السيارات في الشوارع عقب كل فوز له، حاملات الأعلام الوطنية. تغيير عميق ومهم أحدثه المنتخب المغربي في البنيات الاجتماعية والفكرية للمغاربة يستحق الدراسة.
فبعد عقود من الأسلمة والسلفنة التي ساد فيها خطاب التحريم الشامل لتواجد الإناث في الأماكن العامة واهتمامهن بالشأن العام، أو للتعبير عن الفرح بالغناء والرقص، يعود الشعب المغربي إلى سجيته وعفويته، حيث عمت الاحتفالات الجماعية كل المدن والقرى، وتنافست الأجيال في التعبير عن وطنيتها ومغربيتها. لم تنل من المغاربة، إذن، فتاوى تحريم مشاهدة مباريات كرة القدم التي لا يكف شيوخ التحريم وفقهاء التكفير عن ترديدها ونشرها. فالشعب المغربي يعي دوافع الشيوخ التكفير وفتاوى فقهاء التحريم التي تكمن وراء امتهانهم التجارة بالدين. لهذا ألقى المغاربة بتلك الفتاوى في مطرح النفايات وداسوا عليها بالأقدام منتشين بلحظات السعادة التي يخلقها المنتخب الوطني بإنجازاته البطولية. فالشعب المغربي لم ينصّب وصيا على ضميره ودينه حتى يقبل بوصاية شيوخ التطرف وأعداء الفرح على أفكاره ووجدانه.
وميزة المغاربة أنهم جعلوا مسؤولية حفظ الدين وحماية الملة على عاتق إمارة المؤمنين حتى لا يكون لتجار الدين سبيلا لفرض الوصاية على ضمائر المواطنين والتضييق على معاشهم. من هنا كان للمغاربة وسيبقى لهم دينهم المعتدل وتديّنهم المتسامح والمنفتح على قيم العصر وكل الإبداعات والتعابير الفنية. وقد جسد جلالة الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، هذا التدين المغربي المتسامح عبر مشاركته المغاربة في أفراحهم بمناسبة تأهل المنتخب المغربي إلى ربع نهائي كأس العالم. خرج جلالته وسط جموع المواطنات والمواطنين المحتفلين بفوز الفريق الوطني تعبيرا عن مقاسمتهم نفس مشاعر الفرح والاعتزاز، وفي نفس الوقت تأكيدا على ثوابت الشعب المغربي ووحدة مذهبه الفقهي القائم على الوسطية والاعتدال والتسامح. وكما انتصر المغاربة على دعاة التطرف والتحريم، انتصروا كذلك على دعاة التيئيس الذين احترفوا نشر السوداوية ومحاربة الأمل وكل ما هو جميل. إذ ترك المغاربة مشاكلهم الأسرية أو المادية أو الصحية أو الاجتماعية وتفاعلوا مع انتصارات منتخبهم بما يليق به من الفرح والاحتفال.
غربان الشؤم على مواقع التواصل الاجتماعي
أما غربان الشؤم الذين ملأوا مواقع التواصل الاجتماعي ببكائياتهم التمساحية، في محاولات يائسة وبئيسة منهم لتعكير أجواء الفرح، فلم يلتفت لهم إلا من هم على شاكلتهم. فالمغاربة لا يمكن لهم أن يرهنوا أفراحهم واحتفالاتهم بانخفاض أسعار المحروقات، أو يؤجلوها إلى حين تغيير الحكومة. إذ لكل مقام مقال وموقف يناسبه. دعاة الشؤم هؤلاء لا يسرّهم إطلاقا أن يروا مظاهر الفرح والسعادة تعم كل فئات الشعب. فهم لا يعترفون بالمكتسبات ولا يثمنون المنجزات مهما كان حجمها وأهميتها. فالسواد والسوداوية يغشيان أبصارهم ويريدون تعميمهما على كل المغاربة.
لقد بالغ غربان الشؤم في التحذير من انفجار وشيك للأوضاع الاجتماعية، وتعميم القراءات السوداوية للإحصائيات الرسمية لنسب البطالة والتهميش والفقر، لدرجة صوّروا فيها المغرب وكأنه دولة وشيكة “الانهيار” أو “الإفلاس”، بينما يتجاهلون المعطيات المتعلقة بقطاع التصنيع والتعدين والفلاحة التي تعكس التطور المضطرد الذي يشهده الاقتصاد المغربي، وكذا جهود الدولة في تحسين الخدمات الاجتماعية وتوفير البنيات التحتية وشبكة الطرق والموانئ والوحدات الإنتاجية. إذ بسبب سوداوية هؤلاء الغربان وحقدهم على الوطن ومؤسساته ورموزه، بات يتهيأ لهم أن ما ينشرونه على حساباتهم الالكترونية من تحريض ضد الدولة واستهداف لرموزها بسلسلة من المغالطات والشائعات الزائفة، قد أثر على المواطنين وأحدث قطيعة بينهم وبين الدولة والنظام. وهْم كبير يعيش فيه أعداء الوطن والمتآمرون ضد أمنه ووحدته يجعلهم يعتقدون أن الدعوة إلى “إسقاط النظام” سيكون لها وقع لدى المواطنين. لقد سبق لانقلابيين ومتآمرين على الوطن وإرهابيين أن حرضوا على “الثورة” ضد النظام، كما أعدّ آخرون “قومتهم” وجمعوا “أمرهم” ليوم “الزحف”، لكن الفشل والخيبة كانا حليفا لهم. من هنا لن يكترث الشعب المغربي بنعيق غربانَ الشؤم مهما نعقوا، أو بشيوخ التكفير ولتحريم مهما شدّدوا، إذ “لن يشاد الدين أحد إلا غلبه”.
ولا شك أن خروج الشعب المغربي بالملايين محتفلا بفوز منتخبه الوطني لهو رسالة واضحة لأعداء الوطن بأن المغرب بلد آمن ودولة قوية وشعب موحَّد.
دامت الفرحة للشعب المغربي وهنيئا له بفوز منتخبه الوطني، وسحقا لدعاة التطرف وشيوخ التحريم وغربان الشؤم. ويكفي المغرب شرفا أن فريقه الوطني وحّد وجدان الشعوب العربية والإفريقية وجعلها تعتبره ممثلها بامتياز في هذا العرس الكروي العالمي.