عثرات الهوية والكيانية السياسية للفلسطينيين
برزت الهوية الوطنية عند الفلسطينيين في ظروف جد صعبة، وقسرية، وفي إطار من القيودات والتشوّهات، بمعنى أنها لم تنشأ بشكل طبيعي، ولم تنضج، أو تتطوّر، وسط ظروف ذاتية سليمة.
معروف أن الفلسطينيين كانوا لفترة قريبة يعتبرون أنفسهم جزءا من مجتمع بلاد الشام، بحكم الروابط المجتمعية/الأسرية، والمصالح والعلاقات اليومية المتبادلة، وأيضا بحكم علاقات الجوار. أما على الصعيد العام فكانوا يعتبرون أنفسهم جزءا من رابطة إسلامية أوسع، ومع صعود النوازع القومية، باتوا يعتبرون أنفسهم جزءا من الأمة العربية مع ذلك، وفي كل هذه الحالات، وقتها، فإن الهوية أو الكيانية السياسية لم تشغل بال معظم الفلسطينيين، ونخبهم السياسية والثقافية.
هكذا كانت النكبة (1948)، والتداعيات الناجمة عنها، بمثابة الحدث المؤسس لمسار تبلور الهوية الوطنية عند الفلسطينيين، على عكس من مقاصدها الرامية لتغييبهم، ذلك أن هذا الحدث، الذي زلزل أوضاع الفلسطينيين، كأفراد وكشعب، هو الذي خلق لديهم، أيضا، نوعا من ذاكرة مشتركة وسردية خاصة وصور متخيّلة، رغم كل ما أحاق بهم من تمزق ديمغرافي وجغرافي وسياسي.
وقد شهدنا أن الوطنية الفلسطينية، بمعناها الرمزي/ الهوياتي، أو بمعناها السياسي/ الكياني، لم تكن على تلك الدرجة المناسبة من النضج، في تلك المرحلة التاريخية الصعبة، التي تجعلها قادرة على الصمود، بالشكل المناسب، في مواجهتها لتجليات المشروع الصهيوني (قبل العام 1948)، أو التي تجعلها قادرة على فرض ذاتها في المعادلات السياسية العربية (بعد العام 1948)، بدليل اختفاء «حكومة عموم فلسطين»، بعد أشهر قليلة من الإعلان عنها، وبدليل عدم تمكّن الفلسطينيين من إدارة الأراضي التي بقيت بحوزتهم (الضفة والقطاع)، إذ تمّ ضم الضفّة الغربية إلى المملكة الأردنية الهامشية، وأخضع قطاع غزة للإدارة المصرية.
بعد ذلك، أي بعد النكبة، لم يعد للهوية ولا للكيانية أية تعبيرات في الحياة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين، إذ تعرّض فلسطينيو 48، مثلا، لمحاولات «الأسرلة»، ما اضطرهم للتحايل على الواقع الناشئ، بحمل الهوية الإسرائيلية، كشرط لبقائهم في أرضهم؛ مع ما يتطلبه ذلك من كبت نوازع الهوية الفلسطينية الناشئة. أما فلسطينيو الضفة الغربية وشرق الأردن (وهم الأغلبية) فباتوا مواطنون ضمن المملكة الأردنية، مع كل تبعات ذلك من استحقاقات.
على ذلك فقد اختصر اللاجؤون الفلسطينيون، في بلدان اللجوء والشتات، قضية اللاجئين، وباتوا هم بمثابة التعبير عن الكل، أي عن الشعب الفلسطيني، على الرغم من أن هؤلاء لم يتح لهم التعبير عن هويتهم، بشكل قانوني وحقوقي، ولا بشكل تمثيلي /مؤسساتي، في تلك البلدان، كما لم يتح لهم التعبير عن قضيتهم بشكل سياسي.
لكن ردّة الفعل على النكبة كانت معاكسة، كما ذكرنا، إذا أن إسرائيل لم توفّق بطمس هوية الفلسطينيين الذين باتوا مواطنين إسرائيليين، أولا، بسبب تمييزها ضدهم، ما فتح مسار «الفلسطنة» عندهم كرد فعل على هذه السياسة. وثانيا، لأن التمسك بالهوية كان أحد عناصر مقاومتهم للمشروع الصهيوني؛ لاسيما أن الفلسطينيين، الذين باتوا أقلية في إسرائيل، هو أكثرية في محيطها بحكم انتمائهم للرابطتين العربية والإسلامية.
وقد شهدنا تصاعد هذا المسار بعد احتلال إسرائيل للضفة والقطاع (1967)، وإثر قيام الحركة الوطنية الفلسطينية وتأسيس منظمة التحرير، كما شهدنا تعزّزه أكثر في مناخات الانتفاضتين الأولى والثانية، لكن دون أن يشكل ذلك قطعا أو انفصالا عن الهوية والكيانية الإسرائيلية؛ وهذه تعتبر إحدى أهم معضلات الهوية والسياسة، عند الفلسطينيين، وتشكل واحدة من أهم تقصيرات حركتهم الوطنية.
أما في مناطق اللجوء والشتات حيث لم تحقق المجتمعات العربية بعد اندماجها المجتمعي/الوطني بعد، وحيث لم تتأسس النظم السياسية القائمة على دولة المواطنين، فقد عانى الفلسطينيون (ولو بشكل مختلف) من التمييز ضدهم، ومن محاولات التضييق، أو السيطرة، على التطورات الهوياتية والوطنية والسياسية عندهم. والمفارقة أن التمييز ضد الفلسطينيين كان يجري باسم الحفاظ على قضيتهم، كأن الحفاظ على هذه القضية يتطلب تأبيد معاناة الفلسطينيين، وعزلهم، بدل التخفيف من ذلك؛ وبذلك تم اصطناع هوية اللاجئ، وهي هوية بين بين، كما يقال!
هكذا فقد انتظر الفلسطينيون ما يقارب عقدين من الزمن (بعد النكبة) كي يلتقطوا أنفاسهم، ويخرجوا من هول المفاجأة، بشأن ما أحاق بهم، ومن حال المعاناة والضياع والتشظّي، التي ألمّت بهم، وكي يبحثوا في خضم التقلّبات والاختلالات والتباينات السياسية العربية عن طريقهم الخاص.
على ذلك يمكن القول بأن الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين تأسست في مخاض جد شاق ومعقد وملتبس، في أواسط الستينيات، وهي لم تولد بنتيجة تطور اجتماعي وسياسي وثقافي في المجتمعات الفلسطينية المتشظّية، والتي تخضع لمحددات وقيودات ووصايات متباينة، وإنما ولدت بفعل عوامل خارجية، كما قدمنا، وأيضا بفعل ولادة الحركات الوطنية السياسية، ولاسيما منها حركة فتح، التي يمكن اعتبارها حاملة لواء الوطنية والكيانية الفلسطينية؛ مع ذلك فإن تلك الحركة وجدت نفسها في مسار معاكس بعد توقيعها اتفاق أوسلو، وإقامة كيان السلطة في الأراضي المحتلة عام 1967، بانتقال العمل الفلسطيني من ملف 48 (النكبة) إلى ملف 67 (احتلال الضفة والقطاع)، الأمر الذي همش منظمة التحرير وأدى إلى تفكك الهوية الوطنية الفلسطينية، بإقامة كيان لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من الحقوق، ومع اختلاف السردية المؤسسة للهوية الوطنية الفلسطينية التي قامت عليها تلك الحركة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
كاتب فلسطيني