شيوعيو البقايا…!
ما يُدهش هو أنّ جزءاً من بقايا شيوعيينا العرب ما يزالون على ولاء مع روسيا، وكأنّ روسيا لم تتغير. أو كأنّ الصراع الروسي -الأمريكي هو استمرار للصراع بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا. ما يزالون ينظرون إلى النظم الدكتاتورية كالنظام في سوريا وكوريا وإيران وكوبا، على أنها نظم معادية للإمبريالية وإلى الميليشيات “الممانعة” كميليشيا حزب الله على أنها قوة كفاحية. وهذا أمر يلقي كل هؤلاء في هاوية النكوص التاريخي وسلة نفاياته....
أحمد برقاوي
لم يستطع سارتر الوجودي الأشهر في عصره إلا الاعتراف بأن الماركسية هي فلسفة العصر، لكنه لم ينحز إلى الشيوعية.لقد كان اليسار المستمد أطاريحه الأيديولوجية من ماركس ولينين ومن ثم من ماو تسي تونغ وستالين وغرامشي مسيطراً في عالم المثقفين إلى حد كبير.
بل لقد كان اليسار العربي الثقافي ذا سيطرة قوية على المشهد الإبداعي. وحتى المثقفين غير المنتمين تنظيمياً إلى الأحزاب الشيوعية كانوا واقعين تحت تأثير الماركسية الساحر بما هي منهج معرفي لفهم الواقع دون أن يعتقدوا بالفكرة الشيوعية، ومنهم صاحب هذا المقال.
كان الانتماء للشيوعية موقفاً أيديولوجياً أخلاقياً بامتياز؛ فالشيوعي، بالتعريف المجرد، شخص قرر الانحياز إلى مصالح الفقراء وعذاباتهم ضد الرأسمال الذي يجعل من استغلال العمل وسيلة لتراكم ثروته، داعياً إلى تحقيق العدالة عبر الاشتراكية التي تلغي الاضطهاد الطبقي. كان الشيوعيون، وبخاصة الأوائل منهم، مخلصين حقيقيين لشيوعيتهم.
من منا لا يتذكر الشيوعيين النبلاء : محمود أمين العالم، زكي مراد، أحمد نبيل الهلالي، سمير أمين، كريم مروة، حسين مروة، مهدي عامل، إلياس مرقص، والشهداء فرج الله الحلو، وشهدي عطية، وعبدالخالق محجوب، وآخرون.
كانت الشيوعية إحدى ثلاث أيديولوجيات ساحرة، إلى جانب القومية والإسلامية، ولكن ما إن انهار المركز الشيوعي العالمي- الاتحاد السوفييتي، حتى راحت الشيوعية تتقهقر في كل أنحاء العالم، وبخاصة في أوروبا الغربية.
كانت الشيوعية العربية، في الغالب، شيوعية مثقفين وفئات وسطى، ولَم تتحول إلى أيديولوجيا شعبية إلا في العراق قبل انقلاب تموز العام 1958 الذي أطاح المَلكية.
وقد واجه الشيوعيون اضطهاداً كبيراً، وزُجّ بهم في السجون في كل مناطق تواجدهم، من العراق إلى المغرب، وظلوا محافظين على وقارهم حتى السبعينات.
ويعود الفضل للحزب الشيوعي اللبناني في تأسيس المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، قبل أن يحتكر حزب الله السلطة في الجنوب، وبالتالي المقاومة التي انتهت باتفاق مع إسرائيل بعد حرب تموز.
لقد شهدت الأحزاب الشيوعية كلها انشقاقات ذات طابع أيديولوجي، وانقسامات كانت ذات علاقة بالسلطة .
ومع هزيمة الدول الشيوعية تاريخياً، وتحولها إلى دول رأسمالية، ومع ضعف الأحزاب الشيوعية الأوروبية، غربت شمس الأحزاب الشيوعية، وبقي جيل قديم متمسكاً بآماله الكبرى في الشيوعية.
غير أنّ ما يُدهش هو أنّ جزءاً من بقايا شيوعيينا العرب ما يزالون على ولاء مع روسيا، وكأنّ روسيا لم تتغير. أو كأنّ الصراع الروسي -الأمريكي هو استمرار للصراع بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا. ما يزالون ينظرون إلى النظم الدكتاتورية كالنظام في سوريا وكوريا وإيران وكوبا، على أنها نظم معادية للإمبريالية وإلى الميليشيات “الممانعة” كميليشيا حزب الله على أنها قوة كفاحية. وهذا أمر يلقي كل هؤلاء في هاوية النكوص التاريخي وسلة نفاياته.
ينتمي بقايا الشيوعيين العرب النكوصيين إلى عالم مضى دون أن أي فهم جديد عن العدالة والإنصاف وحركة الرأسمالية المتعولمة.
مرة أخرى نقول:ما يدهش هو أنّ بقايا من الشيوعيين ما يزالون على ولاء مع روسيا وكأنّها لم تتغير.
الشيوعي ذو الطراز القديم، الشيوعي السوفييتي، لم يعد ابن الحياة، وبالمقابل، لا يمكن ترك العلاقات الرأسمالية في صورتها العولمية التي تأخذ طابع الرأسمال المتوحش جداً دون رد فعل، فالشيوعية بالأصل هي المولود الطبيعي للرأسمالية، والمولودة من رحمها، بوصفها نقداً لها ولنتائجها على الإنسان وحريته. ولأنها اتسمت بطابع طوباوي فإنها أنتجت تجربة الدولة الأيديولوجية الدكتاتورية التي لم تستطع أن تحقق أوتوبيا لكلٍ حسب حاجاته.
فيما استطاعت الدول الإسكندنافية أن تقدم للبشرية نموذجاً للإنصاف يوفر لأفراد المجتمع حاجاتهم وحرياتهم وكرامتهم.
ولعمري إن الشيوعي على الطريقة السوفييتية والبكداشية ليس سوى خرقة بالية وحنين عجائز. إنّ كفاحات البشر اليوم لا تأتي ثمارها بالاستناد إلى أوتوبيا تطرح البدل المستحيل، بل بالاستناد إلى الممكنات التي يختزنها العالم الواقعي.
وبالمناسبة، فإنّ جدل الممكن والواقع هو جوهر ديالكتيك ماركس.أليس هو القائل: إنّ انتصار أسلوب إنتاج جديد لا يمكن أن يكون إلا إذا نشأ في قلب أسلوب الإنتاج القديم. ولهذا فإنّ القوة الأخلاقية الإنسانوية للكفاح لا تؤتي أكلها إلا بمعرفة جدل الممكن والواقع.
وموت الشيوعية عبر بقاياها العربية في عالمنا ،المدافعة عن الاستبداد بكل أشكاله ،بما فيه الاستبداد الأصولي الإيراني،موت محزن لأنه موت كوميدي،وليس موتاً نبيلاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باحث فلسطيني – أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق/سوريا