ثقافة و فن
شهر التراث 2022: هل هو فاتحة إقلاع ثقافي بالمغرب؟
“في إطار فعاليات شهر التراث، تنظم جمعية ***** معرضا لصور مدينة ******* ومائدة مستديرة حول صيانة وتأهيل التراث”. هكذا طلعت علينا قصاصات الأخبار من عدد من مدن المغرب، مثلما قرأنا إعلانات أخرى من قبيل “احتفاءا بشهر التراث، تنظم جمعية كذا خرجة ميدانية إلى المعالم التاريخية لمدينة كذا”.
نترك جانبا مئات الإعلانات والتسجيلات الصادرة عن المصالح التابعة لوزارة الثقافة عبر ربوع المملكة، ومئات المقالات والوصلات الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، ونفتتح هذه المقالة عن شهر التراث بهذه الإعلانات الجمعوية، التي تعتبر سابقة في تاريخ المغرب الحديث، لتلخيص النجاح الكبير وغير المسبوق الذي عرفه شهر التراث 2022، بالمقارنة مع ما سبق من دورات، منذ عشرات السنين. وإن انخراط المجتمع المدني في احتفالات شهر التراث يعتبر دليلا ساطعا على أن الرسالة قد وصلت، أو على الأقل قد بدأت تجد صدى واسعا لدى شرائح المجتمع، جمعيات وأفرادا، ومنتخبين، ومسؤولين بعيدين عن حقول التراث والثقافة، قليلا أو كثيرا. وإن منتهى ما تقوم به المصالح التابعة لوزارة الثقافة من أعمال تحسيسية طيلة السنة، كل سنة، هو أن لا يبقى التراث والثقافة شأنا محصورا في وعلى السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة، بل لتصبح الثقافة شأن بلد بأكمله، بكل مسؤوليه ومنتخبيه وكل شرائحه. وإن ذاك الانخراط العام والعارم، هو الضمانة الأكيدة لتطوير الفعل الثقافي، والاستهلاك الثقافي، ولصيانة الموروث الحضاري لكل بلد وضمان استمراريته في الأجيال اللاحقة، وإسهامه في العجلة الاقتصادية التي لا تتوقف عن الدوران، عجلة تجرها الثقافة والتراث بامتياز، لما للتراث وللصناعات الثقافية من ريادة اقتصادية، في كل بلد أعطى للثقافة والتراث الاهتمام اللازم. وهذا ما ننادي به دوما لبلدنا المغرب، لعل الآذان تكف يوما عن الصمم. وفي هذه الاتجاهات تصب مواثيق ومقررات منظمة اليونسكو والمجلس العالمي للمباني التاريخية والمواقع، إيكوموس، والمجلس العالمي للمتاحف، إيكوم.
على هذا الأساس، طَــرِبنا لانخراط جمعيات ومنظمات كثيرة وبعض المنتخبين وأجهزة حكومية في فعاليات شهر التراث 2022، بل إننا لم نضجر حتى من بعض الجمعيات هنا وهناك التي نسبت إلى نفسها أنشطة كانت فيها فقط شريكة، بدعوة من مصالح وزارة الثقافة وتمثيليات مديرية التراث الثقافي. وبدل أن نكون عدميين، فقد رأينا في هذا “السطو” عنوانا لانخراط المجتمع المدني في حرث حقل التراث، إيذانا بترسيخ تَــمَــلك المجتمع المدني لتراث مدينته، ووطنه. مما يعني أن سنة 2022 شكلت قفزة نوعية وباهرة في تنسيق مصالح الثقافة مع الجمعيات والمنظمات، مما كان في السابق يعتبر بمثابة إنجازات معزولة، ومحدودة التأثير، بشكل ما. ويجدر أخيرا التنويه بالعمل الجبار الذي قامت به، في إطار أنشطتها الخاصة، مؤسسة المحافظة على التراث الثقافي لمدينة الرباط في الأوساط التعليمية، بتنسيق مع مصالح التربية الوطنية واللجنة المغربية لإيكوموس، طيلة شهر التراث وكذا برنامجها بالمعرض الدولي للنشر والكتاب 2022 بالرباط. هو عمل جدير أن تنقله إلى مدنها جمعيات أخرى هنا وهناك. ومع كل التحفظات، فقد سجلنا عموما انخراط الأفراد والجمعيات والمنظمات في فعاليات شهر التراث، بدرجات مختلفة بين مناطق ومدن المغرب. وهذا يعني أن هناك عملا شاقا ينتظر مختلف مصالح وزارة الثقافة، ووزير الثقافة شخصيا، عليهم أن يجتهدوا فيه، بغير كلل ولا ملل، لتثمين المنجز الضخم الذي حققه شهر التراث 2022.
ولابد من التوضيح، بعيدا عن لغة الخشب، أن هذا التفاؤل الحذر في الحديث عن الوقع الإيجابي لشهر التراث 2022، هو تتويج لاستقراء صيرورة الاحتفال بشهر التراث من عشرات السنين. فبمرافقتنا لاحتفالات مديرية التراث والمصالح الخارجية لوزارة الثقافة منذ سنة 1991، لا يمكن للمرء إلا أن يسجل البون الشاسع بين التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، وبين ما أضحى عليه شهر التراث منذ سنة 2019، سواء بالنظر إلى طبيعة الأنشطة أو في باب الاعتمادات المالية المخصصة لشهر التراث. وقذ دأبت مديرية التراث والمصالح الخارجية لوزارة الثقافة على الاحتفاء باليوم العالمي للمباني التاريخية في 18 أبريل من كل سنة، والمحدد بقرار من المجلس العالمي للمباني التاريخية والمواقع، مثلما كانت تحتفي باليوم العالمي للمتاحف في 18 ماي من كل سنة، بقرار من المجلس العالمي للمتاحف. كان التراث يعرف يومين منعزلين في السنة كما في كل بلدان العالم، قبل أن تشرع مديرية التراث الثقافي منذ أكثر من عشر سنوات في دمج يوم المباني ويوم المتاحف في شهر كامل يمتد من 18 أبريل إلى 18 ماي من كل سنة.
ومنذ 1991، تاريخ انخراطنا في أسلاك الثقافة، إلى حدود بضع سنوات قبل اليوم، لم تكن المصالح التابعة للثقافة تتوصل بأية اعتمادات مالية مخصوصة للاحتفاء باليوم العالمي للمباني التاريخية والمواقع وباليوم العالمي للمتاحف، ولا باعتمادات خاصة بشهر التراث منذ إقراره. كان الاحتفاء شبه عمل تطوعي تقوم به بالمجان مصالح التراث والثقافة، اعتمادا على الجهود الجبارة لرجالات ونساء التراث عبر امتداد ربوع المملكة، وبحسب القدرات العلمية والفكرية لكل فرد وكل مصلحة من مصالح وزارة الثقافة. وبفعل بعض النجاحات المعزولة، بدأت بعض الاعتمادات المالية المحتشمة تخصص لبعض المصالح. وقد شكلت سنة 2019 انطلاقة جديدة لاحتفالات شهر التراث، بشكل غير معهود. فقد تم التخطيط مسبقا للاحتفاء وفق برامج إقليمية ومحلية متفاوض بشأنها، مما استحق انخراطا شخصيا في المشروع من طرف وزير الثقافة الأسبق محمد الأعرج، إيمانا منه بالمشروع الجاد الذي طرحته على أنظاره مديرية التراث الثقافي. غير أن الاعتمادات المالية ظلت متفاوتة، على قلتها، لكن فعاليات شهر التراث 2019 حركت إن قليلا أو كثيرا صخرة التراث، وقد كان للإعلام الوطني دور مشكور في مواكبة تلك الأنشطة، بدرجات متفاوتة.
وقد كاد المشروع أن يُجهض عام 2020 بسبب جائحة كرورنا، غير أن مديرية التراث ومصالح الثقافة عموما، اجتهدت في تقريب المواطنين من شهر التراث عبر وسائط التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية، بمحاضرات وندوات تناظرية ومعارض وورشات فنية. لكن مختلف هذه المصالح أصابها الكلل عام 2021 من تبعات كورونا، قبل أن تستفيق من جديد على نفس جديد، بدفعة جديدة.
وقد كانت سنة 2022 فعلا انطلاقة جديدة لشهر التراث، بتخطيط مسبق ومدروس، وانخراط شخصي مكين من وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد الذي طلع هو الرئيس الفعلي لفعاليات شهر التراث. وقليلون أولئك الذين تنبهوا إلى “الدفعة السياسية” الاستثنائية التي شمل بها وزير الثقافة شهر التراث 2022، خلال إشرافه الشخصي على حفل الافتتاح في محفل بهيج بالرباط، مرفوقا بتوقيع قرار غير مسبوق مما يستحق تسميته “قرار صيانة التراث الثقافي المغربي من انتحال الصفة”. ثم ظل الوزير حريصا على المتابعة اليومية لكل الأنشطة بمختلف ربوع المملكة، ليطلع على المقالات والصور والتسجيلات التي كانت تصل يوميا إلى مديرية التراث الثقافي. وقد وجب التنويه عاليا بجهادية واستماتة كل ممثلي الثقافة على امتداد خريطة الوطن، إذ كان الجميع في مستوى اللحظة.
تلكم الدفعة التي نسِمُها بكونها دفعة سياسية، جعلت الإعلام الوطني شريكا أساسيا في فعاليات شهر التراث، وقد كان في كثير من المحطات هو المبادر إلى التغطية دونما حاجة إلى دعوة من هذه المصلحة أو تلك. مثلما سجلنا تسابق كثير من المصالح الخارجية لبعض القطاعات الحكومية للانخراط في احتفالات شهر التراث، ونخص هنا منها بالذكر، المصالح الخارجية التابعة لوزارة التربية الوطنية. مثلما تحدثنا مطلع المقال على الانخراط المنقطع النظير للجمعيات المحلية والوطنية، وكذا بعض المجالس المنتخبة وبعض الخواص في بعض مناطق المغرب. ومما يدل أيضا على نجاح شهر التراث، هو أن الموضوع أصبح على لسان المواطنين في نقاشات ثنائية أو جماعية في الشارع العام، كما في بعض الفضاءات العمومية، من مقاهي ومطاعم وعربات النقل الجماعي وغيرها. وغني عن الذكر، أن بعض المواطنين شدوا الرحال من مدينة إلى مدينة أخرى لتغذية ذواتهم من بعض الأنشطة الثقافية والفكرية، المقامة في مدينة غير مدينة إقامتهم. هكذا يمكن القول إن شهر التراث سنة 2022 جعل الوطن يتحدث لغة التراث. وهذه قيمة مضافة تستحق عناية أكثر ومتابعة حثيثة كي لا يضيع هذ الرأسمال. ولابد من التذكير أن شهر التراث جاء عقب حدثين هامين، وهما صدور التقرير التركيبي للجنة النموذج التنموي الجديد، رغم ضعف الملف الثقافي فيه، والتقرير المفصل للمجلس الاقتصادي والاجتماعي حول تدبير التراث، وهو تقرير يستحق كل التنويه، رغم بعض الملاحظات الطفيفة على بعض مخرجاته.
غير أنه، ومن باب “لكل شيئ إذا ما تم نقصان”، فإن شهر التراث يعرف بعض “ما تم نقصان”، وعلى رأسها تأخر توصل المصالح الخارجية بالاعتمادات المالية، مما يصعب معه تأكيد الالتزامات مع الشركاء من أشخاص ذاتيين ومعنويين، ومشاق الحجز المسبق للقاعات والإقامة بالمؤسسات السياحية. مثلما أن تعامل مصالح الخزينة العامة يشوبه بعض الخلط في التأشير على النفقات، مما يتطلب من وزارة الثقافة التنسيق مع الخزينة العامة للمملكة لتيسير عمل مصالح الثقافة ومصالح الخزينة على المستوى الإقليمي، في احترام للقانون طبعا. ثم إنه لا بأس من التخطيط لبرامج شهر التراث على الأقل ثلاثة أشهر قبل انصرام السنة المالية السابقة على السنة الموالية التي ستعرف الاحتفاء بشهر التراث، لتتمكن وزارة الثقافة مسبقا من “مقايضة” مشروعها مع مصالح المالية ومع المؤسسة التشريعية، ومن ثمة يمكن مضاعفة الاعتمادات المالية المخصصة لشهر التراث، علما أن العنصر البشري هو الأساس في نجاح المشروع، من خلال نباهة وكفاءة وحيوية نساء ورجال التراث والثقافة. ثم إنه لابد من عقد لقاء وطني سنوي للقيمين على التراث، لتقييم شهر التراث، بإيجابياته وعوائقه، وتبادل الخبرات، في استشراف للمستقبل. ونحن نعلن بداية عن تحفظنا على إغراق شهر التراث بأنشطة فنية فلكلورية تُخرجه بشكل ما من خانة المباني التاريخية والمواقع والمتاحف ومن فلسفة الاحتفاء بهما.
بناءا على كل ما قيل ولم يرد في هذا المقال في تفاؤل حذر، وجب وضع السؤال التالي : هل دقت ساعة اعتبار التراث والثقافة عموما شأنا وطنيا، وشأن حكومة بكل مكوناتها، للقطع مع اعتبار الثقافة شأنا محصورا في أسلاك السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة وبذلك تظل الثقافة معطوبة العجلات ؟.
إذ نضع هذا السؤال الذي طالما وضعناه من سنين، من خلال محاضرات عمومية ومقالات صحفية وعلمية، لا يفوتنا أن نشير إلى أن الخلاصات التي يمكن استنتاجها من نجاحات شهر التراث، سواء في 2019 أو في 2022 على وجه التحديد، تشير إلى أن هناك إرادة عليا للدولة في الالتفات إلى الشأن الثقافي بالمغرب. وإذا كان المشروع الملكي لإنقاذ المدن العتيقة قد شكل نقطة فارقة في تاريخ المغرب، وإذا كانت كثيرة هي الخطب الملكية السامية التي تخص الثقافة والتراث بعناية موصولة، فإنه يبدو أن الحكومات المتعاقبة لم تكن ربما في مستوى تلك الإشارات الملكية القوية، فظلت وزارة الثقافة تسبح وحيدة، دون مجاديف. غير أن الإشارات العديدة والقوية في السنوات القليلة الأخيرة، ومشروع الرباط مدينة الأنوار والثقافة، تومئ كلها بفتح جديد في صيرورة حياة التراث والثقافة عموما. ويبدو، على أرض الواقع، أن الحكومة المغربية ربما بدأت أخيرا، ومتأخرة، تنخرط في مشروع الثقافة، تماشيا مع التوجهات الملكية ورغبة عاهل البلاد في استرجاع المغرب مكانته الحضارية العظيمة التي شيدها على مر آلاف السنين بناءا على منتوجه الثقافي ومنشآته العمرانية المتفردة وتراثه اللامادي الاستثنائي، داخل المغرب وخارجه، زمن الإمبراطوريات المغربية المترامية الأطراف شرقا وشمالا وجنوبا.
وغني عن التذكير أن الثقافة والتراث رافعة مركزية لا محيد عنها في تنمية شاملة ومندمجة ومستديمة وصديقة للبيئة، سواء في مجالات الصناعة والاقتصاد والمال والأعمال، أو في بناء الفرد والمجتمع وترسيخ مجتمع المعرفة، وأيضا في استتباب السلم والأمن الاجتماعيين. فالمناعة الثقافية والأمن الثقافي من مقومات كل أمة، ويسبقان السياسة الأمنية بمفهومها الضيق. ولذلك تفشل كل المقاربات الأمنية وكل جهود التنمية وكل مشاريع الدمقرطة في كل مجتمع لا يوفر لمواطنيه أمنا ثقافيا، بغذاء ثقافي دسم ومتنوع. وسنعود لاحقا في مقالات خاصة لموضوع اقتصاديات التراث والثقافة، ودور الثقافة في بناء مجتمع المعرفة وكذا في تثمين اللحمة الوطنية والتشبث بثوابت الأمة، في انفتاح مفتوح على الكون ومستجداته، بعيدا عن التثاقف والاستيلاب الأعمى.
الجديدة : 14-7-2022
29
7 commentaires