مدارات

سعيد الكحل يكتب عن: مؤتمر الأزهر وتكريس منظومة التطرف الديني

احتضنت القاهرة المؤتمر الدولي لعلماء المسلمين بتنظيم من مؤسسة الأزهر تحت عنوان: “مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي” خلال يومي 27 و28 يناير 2020 بمشاركة نخبة من الشخصيات السياسية والدينية البارزة وممثلين عن وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من 46 دولة من العالم الإسلامي. وكانت الغاية المتوخاة من المؤتمر هي الرد على عقائد التكفيري وطروحات الإرهابيين وتقديم أسس خطاب ديني جديد يحصّن المجتمعات العربية/الإسلامية من مخاطر التطرف ويرقى بالوعي الديني لدى عموم المسلمين. لكن الملاحظ من كلمات شيخ الأزهر وغالبية المتدخلات والمتدخلين وكذا البيان الختامي أن المؤتمر، كسابقيه، لم يتحرر من أسْر التراث الفقهي ومنظومته المفاهيمية؛ الأمر الذي انتهى بالمؤتمِرين إلى شرعنة وتكريس نفس العقائد والأطروحات التي حاولوا دحضها والرد على أصحابها ، والتي تشكل المرجعية الأساس للتنظيمات المتطرفة. ويمكن الوقوف عند الأمثلة التالية:

1ـ الهجوم على دعاة التحديث والتنوير ورميهم بنفس التهم التي ترميهم بها التنظيمات المتطرفة، كما ورد في كلمة الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية المصرية- الذي اتهمهم بكونهم ( يستقون أفكارهم من نماذج معرفية غريبة عن الإسلام، لا تمت إلى النموذج المعرفي الإسلامي الوسطي الأصيل بِصِلة). ونفس الهجوم شنه الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر لما حذّر من (ظهور كتائب التغريب والحداثة. والتي تفرَّغت لتشويه صورة رموز المسلمين، وتلويث سمعتهم والسخرية من تراثهم..).

2 ــ التمترس خلف نفس المقولات التي جعل منها الأصوليون (متطرفون ومعتدلون) ثوابت دينية وعلى رأسها “المعلوم من الدين بالضرورة”، ليرموا التنويريين والتحديثيين بالخروج عن الدين واستهداف ثوابته وفق ما ورد في كلمة د. شوقي علام بكون (التجديدُ عندهم لا يتجاوز معنى التجريد؛ أي تجريد الإسلام من ثوابته التي تُعرف عندنا بالمعلوم من الدين بالضرورة، تلك الثوابت التي تحفظُ الدينَ ولا تتغير بتغير الزمان ولا المكان).

3 ــ رفض الاجتهاد فيما يُعتبر “نصوصا قطعية” الذي شدد عليه البيان الختامي للمؤتمر كالتالي: (النصوصُ القطعيةُ في ثبوتها ودلالتها لا تجديدَ فيها بحالٍ من الأحوال)؛ وفي هذا تناقض واضح مع مضمون النقطة الأولى من البيان التي تعتبر “التجديد لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة، لا ينفكُّ عنها؛ لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس.” فبيان المؤتمر يحدد مجال إباحة الاجتهاد ومجال تحريمه ومنعه، ولا يدرك أن أسباب الفتن الطائفية والمذهبية التي تفتك بالأمة الإسلامية وتمزّق شعوبها وتهجّرهم من أوطانهم هي هذا التمييز في النصوص بين القطعي منها  والمتشابه، والذي يشكل القاعدة المشتركة بين كل التيارات الإسلامية. إذ كل فريق يخصص جزءا من النصوص الدينية ويعتبرها “قطعية” حتى يفرض تصوره على غيره حماية لمصالحه أو يبيح قتاله لخصومه. وجميع هذه التيارات تتناقض مع القول المأثور عن ابن عباس من كون القرآن يفسره زمانه.

4 ــ خصخصة مفهوم “التجديد” حتى يبقى حكرا على من اعتبرهم بيان المؤتمر”الراسخون في العلم” الذين لهم حق التفسير والتأويل والتجديد وعلى بقية الفئات الإتباع والطاعة (التجديد صناعة دقيقة، لا يحسنها إلَّا الراسخون في العلم، وعلى غير المؤهَّلينَ تجنُّب الخوض فيه حتى لا يتحوَّل التجديدُ إلى تبديد). فما الذي جاء به “الراسخون في العلم” من اجتهادات تفيد الشعوب الإسلامية في الحياة العامة والخاصة؟ إن “الراسخين في العلم” هؤلاء هم  أعضاء “جبهة علماء الأزهر” الذين هاجموا ، فتوى شيخ الأزهر  الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي، ومفتي الجمهورية السابق الدكتور علي جمعة، بتحريم عمليات ختان الإناث سنة 1994، وقد ساندهم في شرعنة جريمة ختان الإناث الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصريّة سابقاً في كتابه (فتاوى شرعيّة) 1/126- 127 تحت عنوان (خفض البنات مشروع)، ويوسف القرضاوي في كتابه (فتاوى معاصرة) 443، والراحل الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي العام في السعوديّة سابقاً وذلك في (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة والإفتاء) 5/119 – 120 – 121، والشيخ محمد مختار الشنقيطي في كتابه (أحكام الجراحة الطبيّة). وهم الذين أفتوا بهدم الكنائس. فقد سبق أن أفاد مُفتي مصر، د. شوقي علام، في مارس 2017، بأنَّ دار الإفتاء المصرية  اكتشفت وجود 3 آلاف فتوى تحرِّض على هدم الكنائس وترفض التّعايش المشترك، مُوضِّحًا أنَّ 70% منها تحرِّم التّعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر.

فعن أي تجديد للخطاب الديني نظم الأزهر هذا المؤتمر  وموقع “مركز الفتوى” ينشر فتاوى تشرعن هدم الكنائس ومنع ترميمها ومنها الفتوى التالية (فلا يجوز لمسلم بناء كنيسة ولا ترميمها لا بنفس ولا بمال، لأنَّ في بنائِها إعانةٌ لأهلها على باطلهم، والله تعالى يقول “وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ/سُورة المائدة 2”.  بل يُحرَّم على الكفار أَيْضًا بناؤها وترميمها، وقد جاء عن تقيّ الدّين السّبكيّ رسالة يقول فيها: “أقول: إنَّه لم يكن قط شرع يسوغ فيه لأحد أن يبني مكانًا يَكفر فيه بالله، فالشّرائع كُلَّها مُتّفقة على تحريِم الكُفر، ويلزم من تحريم الكُفر تحريم إنشاء المكان المتّخذ له، والكنيسة الْيَوْم لا تُتخذ إلا لذلك، وكانت مُحرَّمة معدودة من المحرمات في كُلّ مِلّة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك، لأنَّه إنشاء بناء لها وترميمها أَيْضًا كذلك، لأنَّه جُزء من الحرام ولأنَّه إعانة على الحرام. وقال السُّبكي أَيْضًا: فإنَّ بِناء الكنيسة حَرام بالإجماع وكذا ترميمها”. وكذلك قال الفقهاء: “لو وصَّيّ ببناء كنيسة فالوصيّة باطلة، لأنَّ بناء الكنيسة معصيّة وكذلك ترميمها، ولا فرق بين أن يكون المُوصي مُسلمًا أو كافِرًا، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصيّة – مسلمًا كان الفاعِل لذلك أو كافرًا – وهذا شرع النّبي”.؟؟

5 ــ شرعنة التكفير والتحريض عليه. فرغم إعلان بيان المؤتمر (التكفيرُ فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديمًا وحديثًا، ولا يقول به إلا متجرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه) فإنه يحرض الشعوب ضد المطالبين بسن القوانين التي تحمي وتضمن حرية الاعتقاد متهما إياهم بنشر الإلحاد والعمل (على ضرب الاستقرار في المجتمعات التي تقدس الأديان، وتحترم تعاليمها، وهو(الإلحاد) أحدُ أسلحة الغزو الفكري، التي يُراد من خلالها -بدعوى «الحرية الدينية»- هدمُ الأديان، وإضعافُ النسيجِ المجتمعي). فالأزهر لم يراجع مواقفه التكفيرية ضد دعاة التنوير وتجديد الخطاب الديني أمثال محمد عبد الله نصر(رئيس الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام من أجل السلام) الذي اجتهد في موضوع حد السرقة فحوكم بتهمة ازدراء الأديان فأدين ب5 سنوات سجنا، أو الباحث الإسلامي إسلام البحيري الذي فنّد الخرافات المنسوبة إلى الإسلام فحوكم بنفس التهمة، وقبله نصر حامد أبو زيد الذي اتهم وحوكم بسبب اجتهاداته الفقهية المتنورة فاضطر للجوء خارج مصر.

6 ــ الإقرار “بالجهاد” كمفهوم ديني يدل على (القتال الذي مارسه ﷺ وأصحابه هو نوعٌ من أنواعه) وأن (المنوط بأمر الجهاد هو السلطة المختصة في البلاد وفق الدستور والقانون، وليس الجماعات والأفراد). ولا يختلف في هذا أعضاء المؤتمر عن التنظيمات المتطرفة، فجميعهم يعتبرون “الجهاد” مطلوب وإن اختلفوا حول الجهة التي تدعو له. وطبيعي هذا الاختلاف طالما المتطرفون لا يقرون بشرعية الأنظمة الحاكمة. فالجهاد مفهوم ديني ارتبط بالدولة الدينية، وتكريسه هو تكريس لها في عصر الدولة المدنية وحقوق المواطنة.

7 ــ إقحام الدين في الدولة: على الرغم من كون المؤتمر أقر بأن (الدولة في الإسلام هي: الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة. والأزهر – ممثلا في علماء المسلمين اليوم- يقرِّر أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالدولةِ الدينية، حيث لا دليل عليها في تراثنا)، فإنه لم يعلن أن العبادات أم شخصي لا يحق للدولة أن تتدخل فيها أو تضع تشريعات تلزم المواطنين بأدائها وتعاقبهم على تركها، كما لم يرفع توصياته بضرورة دسترة حرية الاعتقاد وبقاء الدولة محايدة بين أهل الديانات. ومن مداخل الديمقراطية وشروطها الإقرار بكونية حقوق الإنسان. وطالما يتداول المؤتمرون مفاهيم مثل الإلحاد، والجهاد فإن غايتهم هي تغليف الدولة الدينية بغلاف الدولة الوطنية لتستمر قوانين ازدراء الأديان وحرمان غير المسلمين من تولي عدد من الوظائف والمهام التمثيلية (منصب رئيس الدولة).

8 ــ المواطنة بين الإقرار والإنكار: إن التراث الفقهي الذي يحتكم إليه الفقهاء والمؤتمرون ويجتهدون من داخله لا يقر بحقوق المواطنة ولا بالمساواة بين المواطنين. لهذا جاءت غالبية التدخلات خلو من التشديد على قيمها وضرورة انفتاح الفقه الإسلامي على قيم العصر وحقوق الإنسان باستثناء مداخلة د. شمس الدين ــ رئيس المجلس الاستشاري لمجلس علماء إندونيسيا ــ الذي شدد على( أنه لن تكون هناك حضارة وتقدم بدون مواطنة، فهي عنصر مهم من عناصر وسطية الإسلام تهدف إلى أداء الواجبات لتنمية البلاد والشعب وفقًا لمبدأ “حب الوطن من الإيمان”). ورغم الهجمات الإرهابية التي استهدفت أقباط مصر وكنائسهم بسبب ذيوع فتاوى إحراق الكنائس وتدميرها، فإن المؤتمرين لم يستنكروا تلك الفتاوى ولم يقروا بضرورة مراجعتها والتراجع عنها، مما يعني إقرارهم بشرعيتها.

الملاحظ، إذن، من تدخلات المؤتمرين والبيان الختامي للمؤتمر أن مسألة تجديد الخطاب الديني بنفس المفاهيم التراثية والعقلية الفقهية التي تشكلت داخل القرون الأربعة الهجرية الأولى لن تفلح في تحقيق النقلة الحضارية الضرورية لعموم المسلمين. فالأمر يقتضي / كما جاء في مداخلة الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة (تأسيس خطاب ديني من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الديني التقليدي، فتجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد). وقد أثبتت الوقائع الحديثة أن علماء الدين والفقهاء أكثر مناهضة لتحديث المجتمعات وإشاعة المساواة بين المواطنين ذكورا وإناثا. فحين أقر الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي المساواة في الإرث تصدت له مؤسسة الأزهر نفسها التي استضافت مؤتمر تجديد الخطاب الديني. وفي المغرب، حين قدمت الحكومة مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، قامت المؤسسات الدينية جميعها مناهضة له ومكفّرة لواضعيه ومؤيديه. فالمؤسسات الدينية تظل متخلفة عن تطور المجتمع وحركيته السياسية والحقوقية؛ وهذا الذي نلمسه مثلا في المغرب الذي صادق سنة 2011، على دستور يقر بكونية حقوق الإنسان فيما المجلس العلمي الأعلى أفتى سنة 2012 بوجوب قتل المرتد. والمثالان التونسي والمغربي يثبتان أن الحكام أكثر انفتاحا على الواقع واستعدادا لتجديد الخطاب الديني من المؤسسات الدينية الرسمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock