ثقافة و فن

رواية ” هواريّة”، أو حين يصبح تصوير الواقع جريمة أدبية

سلطت الرواية الضوء على المال وعلاقته بالفساد في المجتمعات العربية وكيف يمكنه أن يهدم الأسر ويقتل الأبرياء، المومسات ضحايا شهوات الرجال الذين يدعون التقوى والدين في نص أدبي متناسق

من وهران/ الجزائر – ب. ن

حققت رواية هوارية للكاتبة الجزائرية إنعام بيوض انتشارا لم يحلُم به أي كاتب جزائري، بسبب تلك الكلمات العامية والبذيئة التي وظفتها في بعض صفحات روايتها ونشر بعضها من طرف” البعض ” على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما أن الكثير ممن نشرها لم يقرأها، وعلماً أن نفس هذه الكلمات يتداولها الجزائريين والجزائريات في الشوارع الجزائرية غير آبهين باحترام المجتمع.

وما زاد الطين بلة، اتهام الكاتبة بأنها لطخت سمعة المرأة الوهرانية التي كتبت فقط عن معاناتها ومعاناة الفئات الهشة وتحدثها بنفس اللغة العامية الوهرانية، فكم من الهواريات في مجتمعنا يعانين في صمت.

صورت الكاتبة الحياة في وهران خلال فترة تسعينيات القرن الماضي، حيث دمجت إنعام واقعاً عاشته الفئة الفقيرة، المهمشة، الضعيفة والهشة التي تأثرت كثيرا بالعشرية السوداء. كتبت عن الهموم التي عانت منها الطبقات الشعبية، وكتابتها الجريئة هي من حفزتها لمعالجة حياة تلك الطبقة. الواقع المأساوي، النماذج التعيسة، زمن القتل، الجوع والفقر، كلها أولجتهم الكاتبة بإمعان مضيفة بذلك بهارات التفاصيل المملة.

تكلمت إنعام أيضا من خلال شخصية هاني عن مناهج التعليم الجزائرية التي تعزز الغباء اللامحدود “حسبهُ”، عن طريق تركه لمدرسته تحت حجة ” لا يريد مزيدا من الغباء” وقد استبدل دراسته بكتب الرصيف علها تعوضه، لكنه ندم أيضاً على عدم دخوله إلى الجامعة، أما المشاهد الجريئة التي صورتها الكاتبة ماهي إلا مشاهد موجودة في الحقيقة في مجتمعنا شئنا أم أبينا، حيث كل كلمة قيلت في الرواية نسمعها دائما في الشارع الوهراني من طرف الشباب الثائر غير آبه بالحرمة أو الشرف “كما يزعم ناقدوا الرواية “.

حكت إنعام على أماكن وهران الجميلة، على الناس البسطاء، على روعة البدايات ولقاءات الحب العذرية، على الفترة التي دهُش منها الشعب الوهراني، على عادات لازالت حتى الآن تتبعها النساء الوهرانيات التي من أهمها زيارة الأولياء الصالحين والتبرك بهم، حكت على فترة اكتشاف الشباب لبلوغهم ولأجسادهم، على الأحبة والعشاق التي لم تكتمل قصتهم، على هوارية وهشام اللذان لم يهنيا بحبهما على الماضي لكنه في نفس الوقت لازال حاضرا في هذه المدينة.

لقد بنيت الرواية على نمط سردي محكم مما جعل شخصياتها تتيح لنا اكتشاف جوانب مختلفة من المجتمع الوهراني، تحكمها بنية درامية جميلة جدا، أحداث متفرقة لكنها ضبطتها بشكل جيد أتاح لنا التعرف على كل شخصية على حدى، رواية مميزة تخاطب القارئ كأنها شخصيات تعيش معنا خاصة أن اللغة العامية أضافت لها معنى خاص، أما في ما يخص بعض الكلمات التي تم توظيفها في الحقيقة يجب أن نراها من منظور منطقي لكي نصل إلى تعبير ملائم و مناسب لتلك الفئات الاجتماعية، لكن الشعب الجزائري أراد معاقبتها بحجة الاعتداء على الحرمة والشرف وهو نفسه الذي لا يتأخر عن مشاهدة المسلسلات والأفلام التي تتخللها مقاطع أكثر من كلمات هذه الرواية.

سلطت الرواية الضوء على المال وعلاقته بالفساد في المجتمعات العربية وكيف يمكنه أن يهدم الأسر ويقتل الأبرياء، المومسات ضحايا شهوات الرجال الذين يدعون التقوى والدين في نص أدبي متناسق، فالكاتب الذي يريد أن يعالج المواضيع بطريقة معمقة، لابد أن يكتب عن المواضيع الحساسة التي لا تعجب العامة! رواية مؤلفة من بضع صفحات ستُقرأ وتُنشر ثم تُوضع في الدرج وتُنسى لكن الشعب الذي انتقدها لن يكف عن سماع الموسيقى الهابطة، ولن يكف عن مشاهدة هؤلاء المؤثرين السلبيين منهم بعض الأشخاص الذين ينشرون مقاطعهم الإباحية في العلن، خاصة أن أغلبية الحكام لم يقرأوا الرواية من الأصل.

تناولت نصوص إنعام قضية العنف ضد النساء و خاصة العنف الزوجي بين عنف الزوج ورغبة زوجته “هناء” في الطلاق لكنها في حيرة من أمرها كيف ستكون حياتها بعد الطلاق بطفلين دون مورد مالي، فكثير من النساء يعانين من الخيانة الزوجية و العنف لكنهن لا يجرُؤن على طلب الطلاق خوفا من عائلاتهن التي لم ترحب بهن أو خوفا من بقائهن دون مدخول مالي، فيفضلن البقاء في عش الزوجية وتحمل تلك المآسي، كما تحدثت الرواية عن هدية التي كانت ضحية لابتزازات جنسية من طرف رجال يدعون الحرمة و يمارسون أشد أنواع الرذائل، انتهت بها للزواج من هواري الشاب الذي نصب لها كمينا جنسيا وأدى بها إلى زواجها منه لكي تصبح زوجة يجهزها و يُرسلها لإقامة علاقات جنسية مقابل مبالغ مالية يستفيد منها، التجارة الجنسية كانت ولا زالت في المجتمعات العربية، والغريب في الأمر أن هذه الممارسات تتم في الخفاء لهذا نجد النساء هم ضحايا هذه الظواهر لكنهن يفضلن الصموت على الفضيحة.

كل شخصية في رواية هوارية هي شخصية غريبة وفريدة من نوعها، شخصيات تحمل في طفولاتها حزنا عميقا، سواء بسبب الفقر أو الأهل الذين تخلوا عن أطفالهم دون أن يكترثو لذلك! كانت طفولة هواري شبه حزينة بسبب حبه للأحصنة كان يتردد إلى أمكنتها ويتسلل بها وكان يريد أن يركبها ولو ليوم واحد لكن للأسف بسبب ساقيه القصيرتين منعه صاحب نادي الفروسية بوهران وحرمه منها واحتقره، طفولة تعد قاسية عندما تحرم طفلا من هواية يحبها وتقتل في نفسه عزيمته، فدخل عالم الكبار المليء بأعمال غير مشروعة بهدف اخراجه من أصماغ تلك الحياة الرتيبة والقاسية. تتقاسمها طفولة الهاشمي، الطفل الذي كبر بدون والديه، عندما هرب أبوه مع فتاة ألمانية وأمه تزوجت ووزعته هو واخوته على المعارف والأقارب حتى كره جميع النساء، أحيانا الطفولة القاسية هي من تزرع الكراهية في قلوب الأطفال ليتم تتويجها بالأعمال والعادات السيئة وبدلا من أن تكون الطفولة هي المرحلة التي يرتكز عليها الطفل، تصبح المرحلة التي تأهله للقيام بالآفات.

هوارية تلك الفتاة التي دخلت عالم العرافة والروحانيات دون أن تعلم ودون أن ترغب، فبعد ممات حبيبها هشام ذبحاً تفرغت لشؤون العرافة وصارت تتردد إلى وعدة الوالي سيدي يوسف، وبعد أن عرفها الناس صاروا يترددون على المقام حجة لمعرفة حظوظهم، أما الشيخ هنان صاحبه فقد عثر على الإوزة التي تبيض له ذهبا وأقام صفقة مع أمها جنيا من خلال هوارية الكثير من المال والمؤونة، بعد أن كانت أمها تعتبرها سيئة الفأل وترمقها دائما بعبارة ” المنحوسة”. تتحدث الكاتبة عن هوارية قارئة الكف التي كانت تتنبأ بكل شيء عن حياة المقربين منها منذ صغرها، لكنها كانت لا تفهم ماذا يحصل معها حتى أدركت الواقع الذي لا مفر منه و اتخذته عملا يضيء وحدتها، تلك الطفلة التي كان أخوها يكرهها و أمها تنعتها بالمشؤومة ، الطفلة التي كانت تلتزم الصمت و تشرد لوقت طويل، شخصية حزينة وجدت في العرافة ملجئها و وسكينة وحدتها، كانت تريد أن تفرج عن الناس آلامهم ، شخصية عاطفية فقدت حبيبها إثر ذبحه من طرف الإرهاب آنذاك، شخصية تصور معاناة النساء في المجتمع الذكوري الذي يجردهم من الاحترام و يدعيه ! تناولت الكاتبة أيضا في روايتها أشكال الدعارة الخفية والسرية في المجتمع، فلا يختلف اثنان أن هناك دعارة رسمية تحاول السلطات معالجتها ودعارة سرية تمارس خفية، مجتمع يحارب الدعارة لكن يمارسها الرجال في الليل بكامل رضاهم! الرواية توضح التناقض الذي يعانيه المجتمع بينما هو مباح أو حرام، رجال يدعون الشرف والاحترام لكنهم يترددون ليلا على أوكار الدعارة! الرواية تتعرض لرقابة شعبية وتسجنها في دائرة القيم الاخلاقية وقد تناست القيم الفنية والإبداعية التي لا يمكن ربطها بالأخلاق دائما فليس كل عمل فني أو روائي يجب أن يربط نفسه بالأخلاق، وأحيانا يمكننا أن نجد عملا غير أخلاقيا لكنه يعالج الظواهر الاجتماعية أكثر من الأعمال الأخلاقية التي أصبح لا يلتفت إليها أحد.

تعرضت الرواية للهجوم، ليس لأنها وظفت بعض الكلمات، با لكون كاتبتها امرأة!! لو كان الذي كتبها رجلا، لما كانت ستتلقى كل تلك الاتهامات، لا سيما كونها لامست العقد النفسية والاجتماعية والمكبوتات التي يعاني منها المجتمع الذي لا يريد أن يعترف ولا أن يستقيم لهذا أظهر غضبا عارما ونسي واقعه!!

! في النهاية كل كاتب حر في طريقته للتعبير عن موقفه، أفكاره وآرائه، ولا يمكن لنا أن نعترض على حرية شخصية بهدف تعزيز القيم والدفاع عنها، إنعام أرادت أن تكون جريئة لتكون قريبة من شخصيات الرواية من جهة ومن قُرائها من جهة أخرى، ولا يمكننا سواء كنا قراء أم كتابا التدخل في حرية الكاتب الشخصية لأن الفن لا يقيد بالأخلاق والضوابط القيمية الجاهزة سلفا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock