رسائل النهب بسوق الأضاحي ومستشفى بنسليمان: تزايدت أعداد الممارسين للشعائر الدينية لكن أخلاقهم فسدت
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي، على نطاق واسع، مشاهد مرعبة لعشرات المواطنين، ضمنهم نساء، غالبيتهم شباب يهاجمون شاحنات بائعي الأضاحي وينقضون عليها سطوا ونهبا في مشاهد لا تختلف عن تلك التي نقلتها القنوات الأجنبية لحظة سقوط نظام صدام الحسين وما رافقها من نهب للمحلات التجارية والأبناك. خلفية المشاهد واحدة وإن اختلفت الظروف. فثقافة الغنيمة التي تستشري في المجتمع تجد جذورها في الموروث الثقافي الفقهي وفي الواقع السياسي الذي أفرز ممارسات حزبية وجمعوية لم يعد تأطير المواطنين والارتقاء بوعيهم على رأس الأولويات.
فالأحزاب إياها باتت تتعامل مع المال العام وممتلكات الدولة بمنطق الغنيمة. هكذا تُرك المواطنون لمصيرهم دون تكوين أو تأطير ينمّي لديهم الشعور بأنهم شركاء في الوطن. فحين تتخلى المدرسة عن وظيفتها التربوية والتعليمية في غرس قيم المواطنة وتربية الناشئة عليها بما ييسر استدماجها واستبطانها في بناء شخصياتهم، سينشأ جيل لا يربطه بالوطن والشعب غير القطعة الجغرافية التي يعيش عليها. حتى هذه الأرض يبحث عن فرص “الحريڴ” منها نحو المجهول. بل إن المدرسة نفسها باتت تربي النشء على ثقافة “الغنيمة” (الحصول على معدلات أعلى بكل وسائل الغش الذي هو سرقة في حد ذاته). ليست المدرسة وحدها التي تتحمل كامل المسؤولية في انتشار هذه الظواهر التخريبية للإنسان وللقيم، بل تتقاسمهما معها كذلك المؤسسات الدينية التي تشيع خطابا يحرض على ممارسة الشعائر الدينية ويقدسها مهما كانت من درجة السنن والنوافل دون ربطها بالأخلاق والمعاملات. مما أشاع ثقافة دينية منافية لقيم المواطنة والوطنية. وكانت النتيجة أن تزايدت أعداد الممارسين للشعائر فيما فسدت أخلاقهم وانحرفت سلوكات غالبيتهم التي باتت تبحث عن “الغنيمة” بما أتيح لها من أساليب حتى الدنيئة منها (نهب ضحايا حوادث السير بدل إنقاذهم، سرقة البضائع من المتاجر من طرف محجبات وملتحين تظهر عليهم علامات الوقار والتقوى ..).كما لا يمكن استثناء مسؤولية التربية الأسرية في تنشئة الأطفال على ثقافة “الغنيمة” والفردانية واستبعاد مفهوم الآخر كشريك لنا في الوطن (سلوك كثير من السائقين عبر الاستحواذ على الشارع أو عرقلة السير بالتوقف حيث يشاؤون ، غياب التسامح …) مثل هؤلاء الآباء والأمهات كيف لهم تربية أبنائهم على قيم المواطنة أو يحدثونهم عنها وقد قاموا بهذه السلوكات في حضورهم؟ وتظل مسؤولية الأحزاب ثابتة بقوة من عدة وجوه :
1 ــ التأطير الذي هو إحدى وظائفها الأساسية وتتلقى من أجل القيام به دعما ماليا مهما من طرف الدولة (المال العام) مقابل المساهمة المباشرة في تربية وتكوين وتأهيل المواطنين ليكونوا واعيين بواجباتهم الوطنية ومسؤولين عن تصرفاتهم .فحين كانت الأحزاب تقوم بأدوارها في التأطير والتوجيه والتكوين ، لم يكن المجتمع يشهد ظواهر النهب والسطو والتخريب التي يعيشها اليوم. للأسف صار همّ الأحزاب هو الأصوات الانتخابية والمقاعد البرلمانية التي تضمن لها المكاسب والمناصب على حساب القيم. فتُرك المواطنون للشارع وللتنظيمات المتطرفة ووسائل إعلامها تخرب عقولهم . هكذا يضيع المال العام ويُحرم معه شباب الوطن من التكوين والتأطير فتكون النتيجة هذه الظواهر المدمر للمجتمع.
2 ــ التسيير حيث تتولى الأحزاب مسؤوليته سواء على مستوى المجالس الترابية أو على مستوى الحكومة. وأولى مظاهر الإخلال بالمسؤولية غياب المرافق الرياضية والثقافية أو قلتها في المدن الكبرى، المتوسطة والصغيرى التي من وظيفتها تأطير الأطفال والشباب وتمكينهم في فرص الإبداع وتقوية القدرات العقلية والمهارات البدنية فضلا عن تخليصهم من الطاقات السلبية بفضل تعدد الأنشطة التي يمارسون. إن المفروض في الأحزاب والمطلوب منها تأطير مستشاريها في المجالس الترابية واشراكهم في وضع برامج تنموية محلية بالانفتاح على هيآت المجتمع المدني، حتى يكون أداؤهم فعالا في تحقيق المشاريع التنموية وخلق فضاءات التثقيف والتسلية تحصينا للشباب من أي انحراف أو تطرف.
على الدولة ،بمختلف قطاعاتها، أن تتعامل بجدية مع هذه الظواهر الخطيرة التي لم تعد تشكل استثناء أو حالات معزولة. فأن يتحدى عشرات المواطنين القوانين والدولة لتطبيق “شرع اليد” أو السطو على ممتلكات الآخرين أو يسمح مرضى كورونا لأنفسهم بنهب تجهيزات المستشفى الميداني بمدينة بنسليمان الذي أقيم خصيصا لعلاجهم، فهذه رسالة قوية للدولة وللأحزاب بوجود شرائح اجتماعية على استعداد لتدمير الدولة ومؤسساتها، وتدمير النظام الاجتماعي والقيمي برمته . فهي لا تشكل خطرا فقط على نفسها ونظامها الاجتماعي، بل على الدولة والوطن. من هنا يمكن القول إن المقاربة الأمنية مطلوبة حتى تعيد الدولة هيبتها وتفرض احترام القانون منعا لاستشراء ظواهر”السيبة”، شرع اليد، السطو والنهب الجماعي.. لكنها ليست كافية؛ إذا لا بد من تعاقد جماعي بين مختلف مكونات المجتمع والفاعلين السياسيين لبلورة نموذج مجتمعي جديد على أسس المواطنة والعدل والمساواة حتى لا يتذرع خارج عن القانون بالفقر أو التهميش. فمهما كان النموذج التنموي الجديد طموحا فلا بد من بناء مواطن مسؤول وغيور على وطنه. وهذا يتطلب مواكبة جدية ومتعددة الأبعاد (سياسية، اقتصادية، تربوية، دينية، تعليمية، ثقافية..) لكل فئات وشرائح المجتمع. فالأمر جدي وخطير خصوصا مع ظهور جيل منفلت من الرقابة الاجتماعية وضحية الفقر والتهميش. وستكون الخطورة أشد إذا نجحت التنظيمات الإرهابية في اختراقه وتجنيد عناصره لتنفيذ المخططات الإرهابية. فالذين سطوا على الأضاحي ونهبوا الشاحنات ستزداد شراستهم حين تحضنهم هذه التنظيمات وتشرعِن لهم جرائمهم.