رسائل البرلمان المغربي إلى البرلمان الأوروبي
لعل ما تواجهه فرنسا في مالي وبوركينا فاسو من طرد لقواتها العسكرية لهو أبلغ رسالة إفريقية لفرنسا وبقية الدول الأوروبية
سعيد الكحل
في خطوة جد مهمة، سياسيا ودبلوماسيا، عقد البرلمان المغربي بغرفتيه، جلسة علنية يرد فيها على التدخل السافر للبرلمان الأوربي في الشؤون الداخلية للمغرب. والقراءة الأولية للبيان المشترك الصادر عن غرفتي البرلمان تسمح لأي ملاحظ بالوقوف على الرسائل التالية:
1ــ إجماع مكونات البرلمان المغربي على رفض وإدانة تدخل البرلمان الأوربي في الشؤون الداخلية للمغرب كبلد ذي سيادة. إنها مناسبة يعيد فيها البرلمان المغربي تذكير المراهنين على بث الفرقة بين مكونات الشعب المغربي، أن وحدة المغاربة حول المصالح العليا للوطن واستعدادهم المطلق للدفاع عنها، ورفضهم البات لأي تدخل في الشؤون الداخلية للمغرب، هي وحدة قوية تسمو على كل الحساسيات الفكرية والإيديولوجية. لقد ولى زمن إذكاء النعرات ودس العملاء؛ بل أفلس تماما شعار “فرّق تسد.”
بهذه الروح الوطنية العالية أفشل المغاربة كل الدسائس والمكائد التي استهدفت المؤسسات، بدءا بالمؤسسة الملكية، ثم المؤسسة الأمنية، ثم المؤسسة العسكرية، وذلك بالالتفاف حولها ورفع منسوب الثقة فيها.
2ــ الصرامة التي تعامل بها البرلمان المغربي مع تدخل البرلمان الأوربي في الشأن القضائي المغربي، والتي تستمد قوتها من قوة وتماسك الجبهة الداخلية التي تعبر عن إرادة الشعب في حماية مؤسساته الدستورية وقراراتها السيادية. فالمغرب، دولة وشعبا، لن يسمحا للأوربيين أو لغيرهم، بمواصلة استعمال أساليب الابتزاز لردع المغرب أو عرقلة تقدمه الذي بات حقيقة تزعج القوى التي لازالت تحنّ إلى عهد الاستعمار البائد.
3ــ قرار مراجعة العلاقة مع البرلمان الأوروبي هو قرار سيادي يؤكد للعقليات الاستعمارية أن “مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس”. ذلك أن علاقات الشراكة التي منحت للمغرب “الوضع المتقدم” إنما تأسست على الأدوار المهمة التي يلعبها لصالح الدول الأوربية، سواء اقتصاديا أو تجاريا، حيث يمثل المغرب المورّد الرئيسي للمنتوجات الفلاحية والبحرية، أو أمنيا من حيث كونه يلعب دورا رئيسا في حماية أمن أوربا عبر المساهمة المباشرة في تفكيك الخلايا الإرهابية التي تتهدد أمن الأوربيين وأرواحهم، أو في ملف الجهرة حيث يتصدى المغرب لشبكات التهجير نحو أوربا حتى تحوّل من بلد عبور إلى بلد استقرار بفضل الإستراتيجية المعتمدة في هذا المجال، والتي أهّلته ــ المغرب ــ ليكون البلد الذي تم التوقيع فيه على “الميثاق العالمي للهجرة” بمدينة مراكش في دجنبر 2018، من طرف ممثلي 150 دولة، فضلا عن احتضانه لـ “المرصد الإفريقي للهجرة”، سنة 2020. وباعتبار البرلمان المغربي مؤسسة تشريعية ورقابية، فإن قرار مراجعة العلاقة مع البرلمان الأوربي ستكون له، بدون شك، انعكاسات مباشرة على طبيعة ومستوى التعاون الأمني والاقتصادي والتجاري مع الاتحاد الأوربي الذي عليه أن يستحضر المنافسة الشرسة لروسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية في مجال الاستثمار، خاصة بالقارة الإفريقية التي ظلت تمثل الحديقة الخلفية للدول الأوربية.
ولعل ما تواجهه فرنسا في مالي وبوركينا فاسو من طرد لقواتها العسكرية لهو أبلغ رسالة إفريقية لفرنسا وبقية الدول الأوروبية.
4 ــ التصدي لكل أشكال الابتزاز التي تمارسها بعض الجهات، وعلى رأسها فرنسا، في سبيل فرملة جهود التنمية والتقدم التي يحققها المغرب، خاصة في إفريقيا، حيث بات ينافس فرنسا في مستعمراتها السابقة. إذ لم يعد خافيا ما تقوم به فرنسا من مناورات لابتزاز المغرب إرضاء لأعداء وحدته الترابية، وفي مقدمتهم الجزائر. لقد تضاعف ابتزاز فرنسا للمغرب خلال السنتين الأخيرتين لثلاثة أسباب: أ ـ الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية الذي وفر للمغرب سندا قويا داخل مجلس الأمن وفي كل الهيئات الأممية، وفتحه على الاستثمارات الأجنبية والشراكات الاقتصادية المثمرة، فضلا عن الدعم العسكري تسليحا وتصنيعا. أمر لم يرُق المتحكمين في القرار الفرنسي الذين مارسوا اللعب على الحبلين بين المغرب والجزائر لعقود من الصراع حول الصحراء.
ومما زاد من سعار هؤلاء التغيير الجدري في موقف ألمانيا وإسبانيا لصالح مقترح الحكم الذاتي وتخليهما عن دعم أطروحة “تقرير المصير”. لهذا لم تستسغ فرنسا المعاملة الندية التي بات المغرب يتعامل بها دون أن يكترث لمناوراتها الابتزازية ( اتهام المدير العام للأمن الوطني بتعذيب المعتقلين، اتهام المغرب بالتجسس باستعمال تطبيق بيغاسوس، تقليص التأشيرات لفائدة المغاربة ..) ب ـ الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت مباشرة على إمدادات الغاز نحو أوربا التي تعتمد أساسا على الغاز الروسي. وما زاد من تعقيد أزمة الغاز في أوربا، التخريب المتعمد لخطي الأنابيب نورد ستريم 1 و2 اللذين يربطان روسيا بألمانيا، ثم وقف الجزائر توريد الغاز إلى إسبانيا عبر أنبوب الغاز الأوروبي المغاربي الذي يمر من الأراضي المغربية، عقابا لها على تغيير موقفها من ملف الصحراء المغربية. وأمام تزايد مخاوف الأوربيين من اشتداد أزمة الغاز، اختارت فرنسا التحالف مع الجزائر ضد مصالح المغرب مقابل ضمان تزويدها بالغاز. وهذا ما فضحه السيد Thierry Mariani، العضو بالبرلمان الأوربي حين واجه بقية الأعضاء بالتالي (أود أن أستهل هذا الخطاب بالقول بأننا نجتمع لإدانة ممارسات بلد يخرق حقوق الإنسان ويقمع الأصوات المحتجة ويشارك في زعزعة استقرار إفريقيا.
هذا يعني أننا نتحدث عن الجزائر. لكن اليسار الأوربي لا يدين قط الجزائر والاتحاد الأوربي يمنحها كل شيء مقابل الغاز الجزائري). إن فرنسا تمارس الابتزاز والسمسرة ضد المغرب ومصالحه العليا بهدف إرضاء الجزائر للحصول على المزيد من الغاز وبأرخص الأسعار، وفي نفس الوقت الانتقام من المغرب والسعي الخبيث لتركيعه والعودة به إلى ما كان عليه بالأمس. وهذا الذي جعل البرلمان المغربي يعرب “بكل مكوناته وأطيافه السياسية، عن خيبة أمله إزاء الموقف السلبي، والدور غير البناء الذي لعبته، خلال المناقشات في البرلمان الأوروبي والمشاورات بشأن مشروع التوصية المعادية لبلادنا، بعض المجموعات السياسية المنتمية لبلد يعتبر شريكا تاريخيا للمغرب.
ويأسف لتلك المواقف والممارسات التي لا علاقة لها بالصدق والإخلاص اللذين تقتضيهما روح الشراكة”. ج ـ التطور الذي يعرفه المغرب والذي يشكل منافسا لفرنسا في “حديقتها الخلفية”، خصوصا بعد استرجاعه العضوية في الاتحاد الإفريقي، وتركيزه على عمقه الإفريقي في التأطير الديني ومحاربة الإرهاب، وخلق الاستثمارات وبناء المشاريع الاقتصادية العملاقة (خط أنبوب الغاز نيجيريا المغرب) وتشكيل تحالفات اقتصادية للدفاع عن مصالح القارة الإفريقية ضد النهب والاستغلال. وهذا الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية توجه للمغرب دعوة، في أكتوبر 2022، للمشاركة في اجتماع الدول السبع G7، اعتبارا لما بات يحتله على المستوى الاقتصادي في القارة الإفريقية.
5 ــ الرفض القاطع لاستغلال وتَسْيِيس قضايا هي من صميم اختصاص القضاء الجنائي؛ ذلك أن التهم التي حوكم على خلفيتها كل من بوعشرين وعمر الراضي وسليمان الريسوني، تدخل ضمن قضايا الحق العام لأنها تتعلق بالاتِّجَارِ في البشر والاعتداء الجنسي واستغلال هشاشة الأشخاص، وهي جرائم تُعَاقِبُ عليها قوانينُ مختلف دول العالم. إذ لا علاقة البتة بين هذه الجرائم وبين حرية التعبير. ويشكل هذا الموقف الصريح من البرلمان المغربي قطعا لدابر كل محاولات توفير “الحماية” الأجنبية لمواطنين مغاربة واستغلالهم كأدوات للتشهير بالمغرب وابتزازه. إن الأحكام القضائية لها مساطر نقضها والطعن فيها، وهي متاحة لكل المتقاضين، أيا كانت وظائفهم. وأي تدخل أجنبي في الملفات المعروضة أمام القضاء هو تدخل في الشؤون الداخلية للمغرب وانتهاك لسيادته يتعارض مع المواثيق الدولية.