رجال سياسة دون مستوى رجال الدولة
يعرّف قاموس «أكسفورد» الحديث رجل الدولة «statesman» بأنه «السياسي المحنك، المهم والخبير، الذي يحظى باحترام الشعب». ومعنى هذا أن رجل الدولة يمثل هذه الأخيرة، بكل مؤسساتها الدستورية، في كل تصرفاته ومواقفه. فهو، ومنذ أن يتحمل أي مسؤولية سياسية مهمة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، يصير بالضرورة، مرآة تعكس تاريخ الدولة وحضارة الشعب. شاغله الرئيسي خدمة المصالح العامة والدفاع عن هموم ومشاكل المجتمع. وهو بهذا لا يكون مِلكا لنفسه ولا لحزبه، ولكن مِلكا للدولة وللشعب. ولا يمكن لرجل الدولة المنتمي حزبيا أن يخدم مصلحة الدولة والشعب إلا إذا جعل الحزب في خدمتهما. الأمر الذي يجعله يحظى بالاحترام والتقدير من طرف كل مكونات المجتمع. ذلك أن رجل الدولة السياسي/المتحزب يدرك جيدا أن الدولة والشعب باقيان بينما الأشخاص والأحزاب عابرون. من هنا يمكن القول بأن كل رجل دولة هو رجل سياسية، بينما ليس كل رجل سياسة رجل دولة. فالسياسيون الذين يجعلون مصلحة الحزب فوق مصلحة الدولة والشعب يفقدون بالضرورة صفة “رجال الدولة”؛ ومن ثم يصيرون عرضة للنقد الجارح وحتى السخرية بعدما فقدوا احترام الشعب لهم. مناسبة هذا الحديث، التصريحات الصادرة عن بعض رجال السياسة الذين تتحمل أحزابهم مسؤولية تدبير الشأن العام، في حق فئات من المواطنين على خلفية الاحتجاجات بسبب غلاء الأسعار وعجز الحكومة أو تواطؤها مع شركات توزيع المحروقات. فالتواطؤ واقع أكده والي بنك المغرب سنة 2017 دون أن تتخذ الحكومة السابقة أو الحالية أي إجراء فعلي لتقليص هامش الربح المتغول لفائدة الشركات إياها. ولعل نعت المواطنين المنخرطين في حملة “أخنوش ارحل” “بالمرضى” من رئيس البرلمان فيه إساء إلى المؤسسة التشريعية أولا، وإلى الشعب ثانيا والدولة ثالثا. فالسيد رئيس البرلمان مفروض فيه أن يستحضر حقيقتين أساسيتين:
الأولى: أن البرلمان يمثل الشعب بكل فئاته من خلال عملية الاقتراع. ومن ضمن فئات الشعب تلك التي انخرطت في حملة “ارحل” تعبيرا عن غضبها. وبغَض النظر عن الموقف من الحملة ومدى انسجامها مع بنود الدستور في تنصيب الحكومة أو تغييرها، فإن المفروض في رئيس البرلمان أن يحترم المؤسسة التي يمثل والناخبين الذين انتدبوه وحزبه. وحتى تكون الصورة واضحة، فإن المنخرطين في حملة “ارحل” يبدو أنهم أكثر عددا من الأصوات التي أهلت حزب التجمع الوطني للأحرار لرئاسة الحكومة والبرلمان. والسخرية منهم هي سخرية من البرلمان نفسه الذي، تبعا للنعت إياه، صوت “المرضى” كلهم أو جلهم، على أعضائه. فهذا البرلمان، في الولاية السباقة، أصدر تقريرا يكشف فيه عن مدى النهب الذي يتعرض له المواطنون من طرف شركات توزيع المحروقات التي راكمت بشكل غير مشروع، إلى حين صدور التقرير، 17 مليار درهم. ومن حق المواطنين أن يحتجوا ويطالبوا بالتدخل العاجل والفعال لردع الشركات إياها ومطالبتها بإرجاع المبالغ المتراكمة من الأرباح المتغولة واللامشروعة. بل كان من المفروض في البرلمان الحالي أن يتصدى لجشع الشركات وتغولها عبر إلزام الحكومة باتخاذ سلسة من التدابير والإجراءات، في مقدمتها تجريم الاحتكار والتواطؤ بين الموزعين على إثقال كاهل المواطنين بالزيادات في الأسعار في وقت تتطلب فيه المسؤولية الوطنية التضحية حفاظا على السلم الاجتماعي الذي بات مهددا بشكل لم يسبق له مثيل.
الثانية: أن رئيس البرلمان عضو منتخب من طرف الناخبين للحصول على العضوية داخل قبة المؤسسة التشريعية، ثم من طرف غالبية أعضاء التحالف الحكومي الذين تم انتخابهم بدورهم. إذن لا أحد من كل هؤلاء يمثل نفسه أو تَسَوّر جُدران المؤسسة التشريعية ضدا على القوانين والتشريعات ليحتل مقعدا داخل القبة. وما دام الأمر كذلك، فإن العضوية بالبرلمان تطوقها مسؤوليات دستورية وسياسية وأخلاقية. هذا بالنسبة لعضو برلماني عادي؛ أما حين يتعلق الأمر برئيس المؤسسة التشريعية، فالمسؤوليات تكون أعظم. وأولاها حماية المال العام من النهب والتبذير، ثم الدفاع عن مصالح الشعب من خلال مراقبة أداء الحكومة.
لا شك أن الذين يغترون بالمناصب ويضعون أنفسهم خارج كل محاسبة أو مراقبة، ستلقى أحزابهم نفس مصير تلك التي طغت قيادتها فجعلت الشعب في خدمة الدولة، والدولة في خدمة الحزب، ففقدتهما معا. إن الوضعية الاجتماعية الحالية لا تتحمل صب الزيت على النار من طرف أي مسؤول حكومي مهما كانت تعبيرات المواطنين عن غضبهم.
لقد غابت الحكمة عن رئيس البرلمان التي عادة يتحلى بها رجال الدولة وتحكم تصريحاتهم في مختلف المواقف. فالمغاربة لا يطلبون من الحكومة غير تطبيق القانون وتقديم المعطيات، بكل شفافية، احتراما لذكائهم. ذلك أن الغموض يثير الشكوك ويغذي الشبهات. لقد غدا العالم قرية صغيرة، يعلم أفرادها ما يجري في كل مكان من أحداث. وكل الأجوبة أو التبريرات التي تقدمها الحكومة بخصوص أسعار المحروقات في المغرب لا يمكن للمواطنين تصديقها طالما يتوفرون على معطيات دقيقة حول أسعار المحروقات في كل دول العالم، خاصة الدول غير المنتجة للبترول، ثم تراجع سعر البترول في السوق الدولية. فليتذكر السيد الرئيس أن جلالة الملك، في خطاب العرش، تفاعل بكل إيجابية مع احتجاجات المواطنين ضد ارتفاع الأسعار ومطالبهم بالتصدي للمتلاعبين بها “ندعو لتعزيز آليات التضامن الوطني، والتصدي بكل حزم ومسؤولية، للمضاربات والتلاعب بالأسعار.”