دفاعا عن الحق الدستوري للمثقفين والإعلاميين والرياضيين في الترشح إلى الانتخابات
تشكل الاستحقاقات الانتخابية بالمغرب هذه السنة، 2021، حالة استثنائية في بعض نواحيها، واستمرارية لممارسات عتيقة، من ناحية أخرى. فالاستثناء يأتي لكون هذه السنة تشهد لأول مرة الجمع في يوم اقتراع واحد كلا من الانتخابات المحلية والجهوية والتشريعية. مثلما يجري الاقتراع في يوم الأربعاء، عوض ما ألفناه من اقتراع ليوم الجمعة في كل عملية انتخابية، تعلقت بانتخاب ممثلي الأمة، أو بالتصويت على الدساتير. والاستثناء البارز أيضا يأتي من الكم الهائل من الفنانين الذين تقدموا بالترشيح إلى الانتخابات. بينما تحافظ انتخابات 2021 على بعض الممارسات المألوفة، السلبية في غالبيتها، من قبيل ما يتم ترويجه عن استعمال المال، أو في التراشق بين بعض مكونات المشهد الحزبي واعتراض بعض قوافل الحملات. مثلما حافظت انتخابات هذا العام على استمرار الأحزاب في تهميش الثقافة والإعلام، وفي تقديم برامج عامة وفضفاضة، لأن الأحزاب في المغرب لم تتعلم بعد أن البرنامج الانتخابي يُستحب له أن ينبني على مشروع مجتمعي يرفع شعارا واحدا، ويرتكز على مجال واحد أو مجالين تتفرع عنهما كل باقي المجالات. وهذا النوع من البرامج الانتخابية يصلح في الحقيقة في الدول التي تعرف نسبة أمية لا تتجاوز خمسة في المائة، ولا تعرف نسبة جهالة مرتفعة بين صفوف المتعلمين.
غير أن ما استرعى أكثر انتباه المتتبعين في استحقاقات 2021 بالمغرب، واستأثر بنقاش شعبي واسع هو تقدم كثير من الفنانين بترشيح أنفسهم إلى الانتخابات الجماعية أو البرلمانية. فقد سبق لبعض الفنانين، والمثقفين عموما، أن تقدموا بترشيحاتهم في انتخابات سابقة، منذ السبعينيات، أو حتى الستينيات، لكن عددهم كان دائما محدودا، وفي كثير من الأحيان لم ينتبه الشعب إلى ترشيحهم، في مجتمع لا يقرأ، أو قلما يقرأ. غير أنه في سنة 2021، في اقتراع 08 ستنبر، عرف الطيف السياسي المغربي رجة حقيقية بحضور كثيف لفنانين وفنانات يحملون لون (رموز) عدد من الأحزاب، تقدموا بترشيحاتهم إلى الانتخابات الجماعية والتشريعية على حد سواء.
في استهجان البعض لترشيح الفنانين إلى الانتخابات
وأنا أتابع أحيانا ما يكتب عن الموضوع، في مقالات صحفية أو عبر تدوينات بصفحات التواصل الاجتماعي، استفزني كثيرا رأي البعض، إن لم أقل رأي الغالبية العظمى من المتدخلين بتعاليقهم المُستهجنة لترشيح فنانين أنفسهم للانتخابات. وإجمالا، فالرأي السائد هو لَــوم الفنانين على “خروجهم” من عباءة الفن إلى جلباب السياسة، ويتناسى أصحاب هذا الرأي أنهم يحرمون الفنانين، والمثقفين عموما، والرياضيين، من حق دستوري مكفول لكل المواطنين المغاربة، البالغين، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي. مثلما يتجاهل الكثيرون أن أول ممارس للسياسة، يوميا هو الفنان. فكل عمل مسرحي أو سينمائي مثلا هو حديث في عمق السياسة ونقد المجتمع. وعلى ذلك قِس أعمال الباحثين والمؤلفين والنقاد والتشكيليين.
يعتقد الكثيرون أن الفنان والرياضي “مِــلك” للشعب وعليهما أن لا “يتخندقا” في حزب سياسي معين. ويتناسى أصحاب هذا الرأي أن الزعيم السياسي والوزير هما أيضا مِلك للشعب، ويترشحان إلى الانتخابات، بحملهما للون هذا الحزب أو ذاك. يستفزني دوما هذا الرأي الذي يجعل المثقف والرياضي في برج عاجي، وكأنهما كائنات نصفها بشر ونصفها ملاك. ويتغافل الجميع على أن ترويج هذه الفكرة الخاطئة عن ولوج المثقفين للمجال السياسي تعود بالأساس إلى خوف بعض الأنظمة من المثقفين، فعملت على ترويج فكرة نأي المثقفين والرياضيين والإعلاميين عن الخوض في غمار السياسة، و”الترفع” عن التقدم إلى الانتخابات. وتعلم تلك الأنظمة ما للمثقف والرياضي من تـأثير في المجتمع. حدث هذا في وضع عالمي متقلب، من ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وعلى هدي تلك الفكرة/المكيدة، ظلت بعض الشعوب متمسكة بهذا الحبل المغشوش.
واليوم، فطنت كثير من تلك الأنظمة نفسها إلى حاجتها إلى هؤلاء الرموز الشعبية، من فنانين وباحثين ومؤلفين وإعلاميين ورياضيين، من أجل المساهمة في تأمين التوازن المجتمعي والسلم الاجتماعي، وتقوية المؤسسات. والمغرب يوجد اليوم بين هاته الأنظمة التي تحتاج إلى كل كفاءاتها، في وضع جيوسياسي عالمي، متقلب أيضا. وقد فطنت بعض الأحزاب إلى هذه الحاجة، فعملت على استقطاب بعض الفنانين، والمثقفين عموما، إلى صفوفها، لتتقدم اليوم، قانونيا ودستوريا، بترشيحاتها إلى الانتخابات. ويتجاهل البعض أن قوة أحزاب المغرب، خاصة منها أحزاب اليسار، وبعض أحزاب اليمين، بنت مجدها وامتدادها الجماهيري على أكتاف مثقفيها، يوم كانت للمثقفين فيها كلمة، قبل أن تعمل نفس الأحزاب على تهميشهم، فتقلص كثيرا امتدادها الجماهيري اليوم. فهي لم تعد تملك من يُخاطب العمال والفلاحين والتجار والحِرفيين، والتلاميذ والطلبة، والنظام.
في توصيف الفنانين المترشحين
لقد ثارت ثائرتي وأنا أقرأ بعض التعاليق الهجينة في حق الفنانين المترشحين. فالبعض استعمل في حقهم عبارات “كل من هب ودب”، و”علامة تاخر الزمان”، أو “صبغوهم”، وما إلى ذلك من التوصيفات القدحية والتجريحية. وهنا سألت بعضهم وسألت نفسي عن نوعية من يمثلوننا إلى اليوم في المجالس المحلية والإقليمية والجهوية، وفي البرلمان. ففي منطوق تلك التعاليق التجريحية، يمكن اعتبار المنتخبين الجماعيين والبرلمانيين بمغرب الاستقلال من نخبة القوم، وخيرة المواطنين، وأكثرهم ثقافة وتكوينا. والواقع يشهد أن المشهد السياسي المغربي يملؤه غير المتعلمين، وهم الذين يشغلون كل المؤسسات المنتخبة، مع قلة من المتعلمين. وقد رفضت الدولة كل المطالب بفرض مستوى دراسي معين على المنتخبين.
يبدو أن أطيافا كثيرة بالمجتمع مازالت متمسكة بالأميين الذين عليهم شغل مقاعد الجماعات والبرلمان، وترفض دخول المثقفين إلى مقاليد تسيير الجماعات والبرلمان، للرفع من الأداء والرفع من قيمة القوانين التشريعية، وتحسين جودة المشاريع الجماعية وحسن التواصل مع المواطنين، وتثقيفهم، ومنحهم الأمن الثقافي الذي يحتاجه كل مجتمع، شرطا مفصليا لكل عملية تنموية.
ومن جهتنا، فإننا نضع المثقفين المترشحين في صنفين، صنف يتم “إنزاله” في حزب ما فقط في مناسبة انتخابية، وهذا أمر مثير للنقد والانتقاد، بكل مشروعية. بينما صنف آخر ينتمي فعلا إلى هذا الحزب أو ذاك، وقد تمرس في هياكله ومحطاته السياسية، وهذا أمر مُـشجع ومرغوب فيه. وقد سبق للمغرب أن عرف إقحاما قيصريا في آخر لحظة لمثقفين في عملية انتخابية، فقط من أجل “البهرجة”، والتسويف، مثلما عرف المغرب دوما إقحام وزراء آخر لحظة بلون حزب لم يسبق لهم أن انتموا إليه قطعا، وهذا أمر غريب ومرفوض. لكننا ندافع عن كل المثقفين والرياضيين المنخرطين قبليا في أي حزب، ويحق لهم/لهن الترشح باسمه في أية عملية انتخابية.
في نقد برامج الفنانين المترشحين
ونحن ندافع عن كل الفنانات والفنانين الذين ترشحوا باسم أحزابهم المنخرطين فيها، لا يمكننا إلا نوجه لهم بعض النقد، من خلال تصريحات بعضهم. فمن خلال ما قرأنا وسمعنا من تصريحات بعض الفنانين، استرعى انتباهنا “انحصار” مشروع هؤلاء المترشحين وانحصار أفقهم الفكري والسياسي. فقد عبر كل الفنانين المترشحين تقريبا عن كون خوضهم غمار الانتخابات يهدف إلى الدفاع عن الفنانين، وعن مصالحهم الفنية والاجتماعية، وعن الرفع من قيمة الدعم المخصص للفن.
وقد تناسى الفنانون المترشحون أنهم في المجالس الجماعية كما في البرلمان، لن يمثلوا أنفسهم، بل إنهم يمثلون مجتمع المدينة، في الجماعات، ويمثلون الشعب، في البرلمان. وعليه، فإن كل منتخب في أية هيئة تسييرية مفروض فيه ألا يكون أنانيا، وألا يدافع فقط عن الشريحة التي ينتمي إليها. فهل في قبة البرلمان، سيدافع الصيدلي فقط عن الصيادلة، والمحامي فقط عن المحامين، والطبيب فقط عن الأطباء، والفلاح فقط عن الفلاحين، ورجل الأعمال فقط عن رجال الأعمال، والنقابي فقط عن العمال؟ والبرلمان يُــشَــرع للأمة، ولقوانين البلاد برمتها.
وفي الحقيقة، إن رأي الفنانين هذا المحصور في الدفاع عن دعم الفن، نجده أيضا عند كل الفنانين تقريبا حين يستضيفهم منبر إعلامي ما، عل طول السنين. إذ نسمعهم مثلا يجيبون عن سؤال “ماذا لو كنت وزيرا/وزيرة للثقافة؟”، فنجدهم يتحدثون فقط عن تحسين وضعية الفنان، وعن دعم الفن، ولا يتحدثون، أو قلما يتحدثون عن أمور تدبير الشأن الثقافي العام بالبلاد، وعن الأمن الثقافي، وعن تفعيل دور الثقافة والتراث في التنمية الشاملة والمندمجة والمستديمة. أما نحن فنعتبر الدعم الفني في شكله اليوم مجرد شكل من أشكال الريع، ونطالب دوما بإعادة النظر جملة وتفصيلا في طريقة صرفه، وفي قيمته المالية كذلك، بما يخدم تطوير الفعل الثقافي بالمغرب. وسنفرد مقالا خاصا للموضوع.
البلاد وننظرة إلى المستقبل من أجل مجتمع متمنع عن أي اختراق
ختاما، لا يسعنا إلا نستغل مناسبة ترشيح فنانين في انتخابات 2021، لنجدد التأكيد على أن البلاد التي تنظر بعيدا إلى المستقبل لبناء مجتمع آمن ومتماسك ومتعلم ومتمنع على أي اختراق، وترسم مسار تنمية مستديمة ومندمجة وشاملة، هي البلاد التي تجعل من الثقافة إحدى أولى أولوياتها، باعتبار الثقافة بناءٌ للفرد والمجتمع، ورافعة مركزية في التنمية، ومنها تتفرع مجالات أخرى حيوية. فالمجتمع الصناعي والتكنولوجي، لا يمكن بناؤه بدون بناء مجتمع الثقافة والمعرفة والعلوم. وحين نبني مجتمع الثقافة والعلوم، فإننا أيضا نستريح من كثير من الأوجاع ومن المشاكل الاجتماعية التي تُكلف الدولة إهدار ملايير كثيرة وتضيع عليها آلاف فرص التقدم والنماء. لا يمكن أيضا بناء مجتمع ديمقراطي دون بناء ثقافي، قطعا. مجتمع بلا ثقافة هو مجتمع متورم. والمجتمع المتورم لا تنفع معه كل القوانين الزجرية ولا المشاريع التنموية، ولا يسمح لا ببناء ديمقراطي ولا بتطوير الاقتصاد واستكشاف المريخ والكواكب. الثقافة ليست ترفا، ولا تأتي في درجة ثانية بعد الطعام (حتى تشبع الكرش عاد تقول للراس غني). فبالثقافة يتم توفير الطعام والأمن والصحة والشغل، وتطوير الفلاحة والصناعة والتعليم والإعلام والسياحة والمال والأعمال. وبدون ثقافة، تبقى كل المجالات معطوبة، فينتج عن ذلك تنمية معطوبة، في مجتمع معطوب. والثقافة ليست هي فقط الثقافة العالِمة، بل تؤخذ في معناها الأنتربولوجي، فنُجملها، عل غرار تعاريف أجهزة اليونسكو، في عبارة “الممتلكات الثقافية”، أو في “التراث الثقافي”، بما يشمل كل مجالات التراث المادي وغير المادي والإبداع الفني والفكري والعلمي، قديمه وحديثه.
صديقاتي، أصدقائي الفنانين، أتمنى لكن/لكم التوفيق في ترشيحاتكم لانتخابات 2021، وأرجو أن تكونوا صوت الثقافة، لصون الثقافة، وصوت الشعب، لا أن تكونوا صوتكم فقط. في انتظار المطالبة بكوطا خاصة بالمثقفين والمثقفات في الانتخابات الجماعية والتشريعية المقبلة، على شاكلة كوطا النساء.
كل المحبة والتقدير.
الجديدة 06-9-2021