منوعات

حين أزال المغرب جبلا من أجل إنقاذ أحد أبنائه

حادث سقوط الطفل ريان في البئر لم تتعامل معه الدولة كحادث عارض مثل حوادث السير أو السقوط من أماكن مرتفعة أو الغرق في النهر أو البحر، وهي حوادث شبه يومية تحدث في كل الدول، بحيث تربطها بأسبابها وترتب عنها الجزاءات بقدر المسؤولية التي يتحملها كل طرف. بل إن الدولة المغربية تعاملت مع الحادث كواقعة استثنائية تقتضي تدبيرا استثنائيا يتحكم فيه روح الشعب بقيمه السامية وعواطفه النبيلة. فالتعاطف الجياش الذي حرك وجدان الشعب ومسؤولي الدولة تمت ترجمته إلى فعل جبار وجهد كبير على أرض الواقع، بحيث هبّت مؤسسات الدولة، بعد أن جنّدت كل إمكانياتها المادية والبشرية، إلى إزالة جبل من أجل إخراج “ريان” من جوف البئر، رغم وعورة التضاريس وصعوبة المسالك. هكذا توارى القانون لفائدة الوجدان والواجب الأخلاقي والإنساني.

لم يطرح أي مسؤول قضية ترك البئر بدون غطاء أو مسألة إهمال الأطفال في سن صغيرة كما يحدث في المجتمعات الأوربية، أو كما ينص القانون المغربي على معاقبة كل من ارتكب، بعدم التبصر أو عدم الاحتياط أو بالإهمال، قتلا غير عمد أو تسبب فيه عن غير قصد بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات. فالانفجار العاطفي الذي أحدثه سقوط الطفل ريان بالبئر في نفوس الشعب المغربي وبقية شعوب الأرض، ثم حالة الحزن التي تملّكت النفوس عن وضعية وظروف طفل في قعر بئر مظلمة وكذا حالة الترقب والأمل في إخراجه حيا يرزق، خلقا حالة وجدانية عامة تداعت لها النفوس، داخل المغرب وخارجه لدرجة، بالترقب والحزن، أصبح معها أمر المساءلة غير مستساغ اجتماعيا وشعبيا وحتى ثقافيا حيث يلعب “المُكتاب” أي القضاء والقدر، دورا مركزيا في مثل هذه الأحداث المجيِّشة لوجدان الشعوب. لقد أظهرت عملية إخراج “ريان” من غور الجبل أمورا جوهرية لا بد من استحضار أهمها كالتالي:

  • تجنيد كل إمكانيات الدولة، المادية والبشرية، لتنفيذ عملية الحفر بكل دقة واحترافية حافظت على سلامة كل المشاركين فيها من مخاطر انهيار التربة. فالدولة وضعت مهندسيها وخبرائها ومعداتها رهن اللجنة المشرفة على عملية الحفر لإخراج الطفل “ريان” من باطن الجبل. وبهذا، أثبتت الدولة اختلاف تعاملها مع حادث سقوط “ريان” في البئر عن تعامل، مثلا، دولة روسيا مع غرق الغواصة النووية “كورسك”، يوم 12 غشت 2000 في بحر بارينتس، وبداخلها 118 عنصرا من طاقمها. ظل طاقم الغواصة عالقا على عمق 108 أمتار دون أن توظف الدولة كل إمكانياتها، ولم تقبل بالمساعدة الخارجية إلا بعد تسعة أيام حيث نجح الغطاسون النرويجيون في فتح بوابة الغواصة وانتشال جثة عناصر الطاقم. الأمر الذي جعل صحيفة “إيزفستيا” تنتقد بشدة الدولة الروسية ورئيسها بوتين لكونهما لم يجعلا الكارثة هاجسا لهما.
  • الدولة أزالت جبلا من أجل مواطن مع ما يكلف ذلك من جهد وإمكانيات. جهد قدّره عموم المواطنين وأثنى عليه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، على لسان نائب المتحدث باسمه، السيد فرحان حق، حين قال في مؤتمر صحفي، يوم الاثنين 7 فبراير (نشيد بالعمل والوقت الذي استغرقته فرق الإنقاذ لإنقاذ الصغير ريان).
  • ــ الوحدة والتلاحم بين كل مكونات الدولة والشعب طيلة عملية الإنقاذ وإزالة الجبل؛ وهي لحظة مشرقة أشاد بها بابا الفاتيكان ضمن عظته الأسبوعية في ساحة القديس بطرس كالتالي: “ومع ذلك، تظل لحظات محاولة إنقاذ الطفل ريان جميلة، حيث احتشد الشعب المغربي قاطبة من أجل إنقاذه في عملية نالت اهتمام العالم كله. اعتدنا على سماع ورؤية الكثير من الحوادث والأشياء والأخبار القبيحة عبر وسائل الإعلام، لكن كان جميلا أن نرى كيف تشبث المغاربة ببعضهم البعض لإنقاذ ريان.” لقد أبان المغاربة، مواطنين ومسؤولين، عن سمو قيمهم الاجتماعية والحضارية وتشبثهم بهويتهم الثقافية والتاريخية، عبر التلاحم والتكافل والتضامن، جعل حشود الموطنات والمواطنين يبيتون في العراء يتابعون عمليات الحفر دون أن تتخذ السلطات العمومية قرار إجلائهم أو حرمانهم من الترقب والمتابعة. كما سمحت السلطات العمومية لوسائل الإعلام الوطنية والدولية بنقل مراحل عمليات الحفر على الهواء مباشرة حتى يتمكن الشعب المغربي وعموم شعوب الأرض من المتابعة.
  • سمو الإنسانية، بقيمها ومشاعرها، على الأديان والأعراق، حيث توحدت قلوب البشرية وتمازجت مشاعرها وتفاعلت بنفس الدرجة من الأمل والألم مع حادث سقوط الطفل ريان ووفاته.
  • نجاح الدولة في تنظيم حشود الحاضرين وتدبير عملية إخراج الطفل ريان من جوف الجبل على مستوى فرق الإنقاذ وتوفير الآليات والمعدّات، مع ضمان أمنهم وسلامتهم إلى حين انتهاء عملية الحفر، ينبغي أن يكون انطلاقة جديدة وفعلية للدولة الاجتماعية قصد توفير شروط العيش الكريم لجميع المواطنين في كل مناطق المغرب وبواديه، وفي مقدمتها تعميم تزويد القرى والأرياف بالماء الشروب والكهرباء. فضلا عن هذا يتوجب على الحكومة الحرص على تطبيق جميع القوانين وتشريع أخرى لمواكبة التطور الذي يعرفه المجتمع المغربي. فحادث سقوط الطفل ريان في البئر يتكرر كل يوم وبصور لا تقل مأساوية (حوادث: سقوط المواطنين في البالوعات بالشارع العام، حوادث السير وانقلاب العربات بسبب الحفر التي تملأ الشوارع والطرقات في المدن والقرى، تعرض الراجلين لحوادث السير بسبب احتلال الأرصفة من طرف الباعة والمتاجر والمقاهي وحتى أرباب المنازل…)؛ الأمر الذي يستوجب تعبئة عامة على مستوى المصالح الخارجية للوزارات والمجالس الترابية والسلطات المحلية وعموم المواطنين لإغلاق الآبار والبالوعات والحفر وتحرير الملك العام . لقد حان الوقت لوضع حد لحالة الفوضى وخرق القوانين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock