بيرس: عن الشِعْرِ؟
"أسمعك تقول:" كل هذا ليس حقيقة؛ إنه شِعر". إنه كلام لا معنى له! أوافقك أن الشعر الرديء كاذب، لكن لا شيء أصدق من الشعر الحقيقي. واسمحوا لي أن أخبركم أيها العلماء أنه باستثناء التفاصيل الدقيقة التي تميز بحوثكم، فإن الفنانين هم أكثر دقة منكم". (Peirce: CP 1. 315).
وديع بكيطة
عرفت التجربة الإنسانية المتمثلة في الشِعر مجموعة من الدراسات والأبحاث سواء على المستوى اللغوي والأدبي والفلسفي… محليا وعالميا، وبالرغم من ذلك، فإن ظهور كل تجربة شِعرية عبقرية فذة، لا يزال يحظى بقيمة مماثلة لقيمة النص العلمي، رغم أن النص الشِعري في بعض الأحيان قد ينفلت من الزمن، ويصبح نصا خالدا، عكس النسبية التي يتمتع بها العلم والتجاوز الذي تعرفه تصوراته ونظرياته.
ما دام هذا الاهتمام بالشِعْر أمر عادي عند النقاد والفلاسفة وحتى عند علماء الإدراك والذهن والعلوم المعرفية في زمننا المعاصر، يبقى هناك سؤال يحتاج لرد؛ لماذا هذا الاهتمام بالظاهرة الشِعْرِية حتى عند المناطقة؟
قديما، صنف إخوان الصفا (ق 10 م) الشِعر ضمن العلوم المنطقية الخمس، ووضعوه في ترتيب هو كالآتي: “أوله أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر، وثانيه رِيطُوريقا وهي معرفة صناعة الخُطب، وثالثه طوبيقا وهي معرفة صناعة الجدَل، ورابعه بولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان وخامسه سُوفسُطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجَدل. (إخوان الصفا، المجلد الأول، ص 268).
يبرز هذا التصنيف أسبقية الشِعرَ عن البلاغة (رِيطُوريقا)، أي أن قواعده هي من تؤهلنا لمعرفة أسرار البلاغة، والبلاغة تؤهل لمعرفة صناعة الجدل، والطوبيقا تؤهل لمعرفة صناعة البرهان، والبولوطيقا تؤهل لمعرفة صناعة المغالطين والمناظرين. كما يبين أن التجربة الشعرية هو المنطلق، الذي يجب أن نبني عليه، من أجل فهم طبيعة الاستدلال ونوعه.
قدم الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرس بيرس تعريفاً للشِعرِ، في قوله: “إن الشعر هو نوع من تعميم للمشاعر، وهو تجديد لا نهائي لها”. (Peirce: CP 1. 676). وبين كيف أن هذا التعميم للمشاعر الذي لا يصير عادة في الشِعر الحقيقي يصير في الدين، لذلك يصير الدين أكثر فاعلية في المجتمع بدل الشعر.
وفي فقرة أخرى، أكد بيرس ذلك، بقوله: “أسمعك تقول:” كل هذا ليس حقيقة؛ إنه شِعر”. إنه كلام لا معنى له! أوافقك أن الشعر الرديء كاذب، لكن لا شيء أصدق من الشعر الحقيقي. واسمحوا لي أن أخبركم أيها العلماء أنه باستثناء التفاصيل الدقيقة التي تميز بحوثكم، فإن الفنانين هم أكثر دقة منكم”. (Peirce: CP 1. 315).
إن بيرس لا يفصل الحقيقة عن الشعر الحقيقي، لأن بنية هذا الأخير، تحمل حقائق مهمة عن الوجود، علما أنه بنفسه يؤكد بـ”أن الحقائق المهمة للغاية هي من كل الحقائق، تلك التي تخص أدق التفاصيل والتي تبدو تافهة. (Peirce: CP 1.673).