مدارات

بن بركة: هل كان جاسوسا؟

شغلني ما شغل الناس البارحة، ما نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، من تقارير حول علاقة مهدي بن بركة بالمخابرات التشيكوسلوفاكية، وأنه كان جاسوسا يعمل لصالحها، وللإشارة ليست المرة الأولى التي تظهر فيها مثل هذه الأشياء، سواء حول بن بركة نفسه، أو حول غيره. وإذا كنت مخالفا للرجل ولتوجهه، فإن هذا لا يدفعني إلى قبول كل ما يكتب عنه، من غير بحث ولا نظر، ومن غير تحري الصواب، خاصة وأن تخصصي الأصلي هو علم الحديث، وأهل هذا الفن هم أكثر الناس تدقيقا في الألفاظ وتحريا للصواب، وإنصافا للخلق، فلا يمنعنهم شنآن قوم على أن يعدلوا، ولا تمنعهم مخالفتهم على أن ينصفوا. وضع كورا، وهو الصحفي الذي اطلع على تلكم الوثائق، فرضية أن بن بركة كان جاسوسا، ثم قال: “لم يعترف بن بركة قط بالتعاون مع جهاز المخابرات، كما لم تدرجه شرطة تشيكوسلوفاكيا السرية في قائمة جواسيسها، بل كان مجرد جهة اتصال سرية، لكنه كان يقدم المعلومات، ويتلقى أجرا” ثم قال: “كان رجلا ذكيا وحذقا للغاية. إذ لا توجد وثيقة واحدة عليها توقيعه، ولا عينات لخط يده. وكان يخضع للاستجواب الشفهي لساعات.”

أما قبل، فإني يحق بي أن أضع القارئ الكريم، في سياق الفترة الزمنية التي قضاها في فرنسا، وذلك أن دراسة ما يتعلق بالرجال، ومواقفهم وكلامهم ومعرفة ما كان يختلج في نفوسهم ومكنونات صدورهم، يقتضي منا أشياء عديدة، منها دراستهم وفق سياقاتهم الزمنية والمكانية. والأحداث التي نحاول كشف عن حقيقتها في هذا المقال، جرت في فترة الحرب الباردة، التي قامت بين المعسكر الليبرالي والمعسكر الشيوعي، وكل معسكر كان يعمل عمله، ويجد جده، في دعم من يواليه، وصاحبنا كان ينتمي للمعسكر الثاني، وكان طبيعيا أن يتم دعمه، ودعم دول أيضا، وهذا معمول به إلى الآن، وفي اليوم الناس هذا، نجد الغرب يدعم من يروج لأفكاره.

وبالعودة إلى كلام كورا، فإننا نجد فيه تخبطا، يثبت ما ذهبنا إليه ونحن نضع القارئ في سياق الزمن الذي عاش فيه بن بركة، فكورا نسب إلى بن بركة تهمة التخابر، وذهب يستقصي الأدلة، فاصطدم بأشياء متضاربة جعلته يتخبط، فلم يجد اعترافا من طرفين ولا ما يثبت تهمة التخابر والعمالة، فاكتفى بالقول: “بل كان مجرد جهة اتصال”، وهذا نفسه الذي تكلمت عليه في حديثي عن السياق الزمني، من أن حدوث اتصالات بين بن بركة والمعسكر الشيوعي شيء وارد وأمر طبيعي، بل إن الغريب هو ألا يحدث اتصال بينهما وتواصل، ولابد أن ينتج عن هذا التقارب الفكري، دعم مالي، وفق مقتضيات المرحلة وأحداثها. كما أن كورا نفسه، لم يكتف بالقول إنه لا يوجد ما يثبت التعاون بين بن بركة والأجهزة الاستخباراتية التشيكوسلوفاكية فقط، بل ذهب في كلامه إلى تبرئته، فقال: “بل كان مجرد جهة”، فانظر معي قوله “مجرد” فهذا اللفظ وحده يثبت براءة بن بركة من تهمة العمالة، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولهذا قلت لك، إن المشتغلين بدراسة علم الحديث، هم أكثر الناس تدقيقا في الألفاظ وتحريا للصواب، فلا نلق الكلام على عواهنه، ولا نقبله كما اتفق، ولكننا ونتيجة ابتعادنا عن هذا المنهج النقدي الفريد، وإغفالنا دراسته والبحث فيه والإحاطة بجوانبه، وهيامنا على مناهج الغرب هيام العاشق الولهان، أصبحنا نقبل كل ما يأتي منهم بخضوع وإذلال وتقديس وإجلال.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب مغربي، مختص في العقائد، والمدارس الفكرية، والاستشراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock