بنكيران ووهم الولاية على الدولة
تتقاطع استراتيجيات تنظيمات الإسلام السياسي، سواء التي وافقت على المشاركة السياسية من داخل مؤسسات الدولة بعد مراجعات تكتيكية فرضها الواقع السياسي الذي اصطدمت به، أو تلك التي تعتبر أن مقاطعة المؤسسات الدستورية هدفها التسريع بانهيارها؛ لهذا تصر على العمل من خارجها تفاديا ورفضا لأي مصالحة مع النظام أو تمديد في أجله. ومن أبرز القضايا التي تتقاطع عندها تلك التنظيمات:
1ـ قضية احتكار الدين فهما وتطبيقا؛ ذلك أن كل تنظيمات الإسلام السياسي تعتبر نفسها هي العالمة بالدين العارفة لأحكامه ومقاصده، وأن المجتمعات المسلمة هي مجتمعات “جاهلية” أو”عاصية” ابتعدت عن الدين عبادة وسلوكا فانحرفت عن تعاليمه ولم تعد تُخضع حياتها الاجتماعية لأحكامه. لهذا أناطت تلك التنظيمات بنفسها مهمة تصحيح عقائد الناس وجعل الدين “مرجعية” للسلوك والتشريع والحُكم. وهذا ما أكد عليه الأمين العام للبيجيدي في خطابه أمام المشاركين في المؤتمر الجهوي الثالث للحزب بجهة درعة تافيلالت يوم الأحد 8 ماي 2022، من أن “العمل في الحركة الإسلامية ارتكز.. على العناية بالدين والالتزام بالمرجعية الإسلامية تمثلا لها في كل الجوانب”؛ علما أن الواقع خلاف ما يزعمه بنكيران وكل تنظيمات الإسلام السياسي.
ذلك، أن الحركة الإسلامية، ومنذ نشأة أولى فصائلها سنة 1970، كانت ولا تزال رأس الفتنة بين أفراد الشعب الواحد الذين كانوا يدبرون خلافاتهم السياسية بالطرق السلمية دون أن يقحموا الدين فيها. إلا أن الحركة الإسلامية، وبما تحمله من إيديولوجية تكفيرية، مزقت النسيج المجتمعي وقسمت الشعب إلى فسطاتين: مؤمنين ومرتدين / كفرة. وهي بهذا التقسيم جعلت من مفهومها للدين معيارا للانتماء للوطن؛ أي أن المواطنة يضمنها الانتماء إلى الدين وليس الانتماء إلى الوطن، بحيث من ينزع عنه الإسلاميون صفة “المؤمن” تسقط عنه صفة “المواطن”. بهذه الخلفية العقدية، ضغط إسلاميو البيجيدي وحركة التوحيد والإصلاح على اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور حتى لا تتم دسترة حرية الاعتقاد.
وكذلك كان، بحيث جاء دستور 2011 خلوا من أي إشارة إلى حرية الاعتقاد. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد ،بل أصر البيجيدي، في شخص وزير العدل والحريات في حكومة بنكيران، مصطفى الرميد، على رفض مطالب الهيئات الحقوقية بتجريم التكفير في مشروع القانون الجنائي الذي جاء به. أما ما يزعمه بنكيران من “إننا نفكر في الملك ونسأل الله أن يعينه ونقول له نحن معك وجئنا لكي نعينك لا أن ننازعك”، فأمر تكذبه الوقائع، ومنها:
أ ـ تنصيب الحركة الإسلامية نفسها المحتكرة للمرجعية الإسلامية فهما وتطبيقا يتعارض، من جهة، مع الدستور المغربي الذي ينيط بالملك مسؤولية إمارة المؤمنين وحماية الملة والدين، ومن جهة ثانية يتنكّر لتاريخ الشعب المغربي في علاقته السياسية والدينية بالسلاطين والملوك.
ب ـ تشكيك أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، في أهلية جلالة الملك لتولي مسؤولية إمارة المؤمنين، لم يكن نابعا من فراغ. فالريسوني، كما باقي قيادات الإسلاميين، ينطلقون من قناعة إيديولوجية بأنهم وحدهم المؤهَّلون لولاية الأمور الدينية. فإذا كان الشيعة يؤمنون بولاية الفقيه في انتظار العودة الكبرى للمهدي المنتظر، فإن إسلاميي المغرب، بيجيديين وعدلاويين، يسعون إلى ممارسة الولاية الدينية على النظام والدولة والمجتمع . واضح إذن، أن الإسلاميين البيجيديين وغيرهم ينازعون الملك السلطتين :الدينية والسياسية لينفردوا بهما.
والأكيد أن الملكية ليست بحاجة إلى بنكيران والبيجيديين وكل الإسلاميين لتقويتها أو الحفاظ على حكمها. فهي راسخة في وجدان الشعب المغربي؛ ولما حاول الاستعمار الفرنسي المس بها هبّ الشعب لحمايتها (ثورة الملك والشعب). لم تكن حينها في المغرب تنظيمات الإسلامي السياسي حتى تدعي شرف الدفاع عن الملكية. وحين تشكلت تلك التنظيمات، فإنها جعلت من تكفير النظام والتحريض ضده أسّ منطلقاتها الإيديولوجية والعقدية. إذ اتخذت ــ تلك التنظيمات ــ من النصوص الدينية مرتكزها في مناهضة النظام والسعي لتجريده من أي شرعية بعد إسقاط الأحكام الفقهية التي أفرزها الصراع على السلطة بين الخلفاء الراشدين والفتن التي فجّرها بين المسلمين إلى اليوم.
لهذا لا تختلف تنظيمات الإسلام السياسي في الأهداف ؛ فجميعها تسعى لتقويض أسس الدولة المدنية وإقامة الدولة الدينية القائمة على تحكيم الشريعة، بينما تختلف حول الوسائل المعتمدة لبلوغ الهدف المركزي.
2ـ الحكم على الأنظمة الحاكمة بأنها أنظمة “عضوض” و “طاغوت“؛ إن المنطلق العقدي/الإيديولوجي لكل تنظيمات الإسلام السياسي يتمحور حول هذا الوصف الذي يخدم إستراتيجية السيطرة على الحكم لإقامة نظام “الخلافة” . وهذا الذي اعترف به بنكيران في إحدى لقاءاته الحزبية من أن أبناء الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها ، كانت لديهم قناعة بأن “سياسة البلاد قائمة على مخالفة مبادئ الدين، ولم يكن لدينا وضوح حول ما يجب أن نفعل، هل ننخرط في السياسة أم نقوم بانقلاب، وكان لدينا حكم شامل عن الجميع بأنهم طاغوت.:
طبعا، هذا الموقف من النظام يتفرع عنه الموقف من باقي الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها الإيديولوجية القائم على التخوين والاتهام بالعمالة، باعتراف من بنكيران (فقد كان لدينا حكم سلبي على كل شيء، وصل درجة التوسع المبالغ فيه في التخوين والاتهام بالعمالة للجميع وبدون دليل معتبر).
إذن، التخوين والاتهام بالعمالة وموالاة الغرب والتآمر على الدين تهم ظلت ثابتة في خطاب التنظيمات الإسلاموية، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، ضد الخصوم السياسيين.
ولعل العودة إلى الفتاوى والمنشورات التي رافقت الحملة ضد مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية ستؤكد أن البيجيديين لم يتخلصوا من سلاح التكفير ولن يفعلوا. تلك هي عقيدتهم التي تجعل الصراع السياسي في جوهره صراعا دينيا وجهادا من أجل إقامة مملكة الله.
3ـ تحكيم الشريعة في أفق إقامة دولة الخلافة؛ بحيث تجعل الحركة الإسلامية هذا الهدف محور وجودها . لأجل هذا انفردت حركة التوحيد والإصلاح وكذا حزب العدالة والتنمية عن بقية مكونات الحركة الإسلامية في المغرب، بقبولهما المشاركة السياسية من داخل المؤسسات الدستورية حتى تكون لهما الفرصة مواتية لاختراق مفاصل الدولة والعمل على أسلمتها عبر وضع تشريعات مستمدة من الدين وفق ما تنص عليه أدبياتهما المرجعية . إن تحكيم الشريعة عقيدة لدى الإسلاميين، معتدلين ومتطرفين، لا يمكنهم مراجعتها أو التراجع عنها.ولعل قبول البيجيدي بالتخلي عن أسلوب الانقلاب للوصول إلى الحكم، لا يعني تخليه عن فكرة إقامة نظام ديني يحكم بالشريعة بقدر ما يدل على ضعف الإسلاميين أمام الدولة باعتراف بنكيران وتحذيره من مصير الانقلابيين السابقين (من كان هدفه الحكم فلينظر إلى عاقبة من سبق من طلاب الحكم والذين يسعون للسلطة أو المال أو التحكم في الناس، فالذين لم ينالوا مرادهم انتهى بهم المطاف في السجون أو المنافي أو الإعدامات.)
ومهما حاول الأمين العام للبيجيدي تجميل تجربته على رأس الحكومة بانتقاد خصومه الذين يتولون تدبير الشأن العام، بكونهم “يتهافتون على المال العام وصرفه في شراء وكراء السيارات الفارهة”، فإن الوقائع تدينه بكونه أول رئيس حكومة شجع على نهب المال العام وحمى المتورطين فيه باتخاذه قرار “عفا الله عما سلف”، وأتبعه بقرار تحرير أسعار المحروقات دون إجراءات لحماية القدرة الشرائية لغالبية المواطنين؛ والطامة الكبرى أنه رفض الزيادة في الأجور ولا يزال يرفضها حتى وهو خارج الحكومة. أما بخصوص تجديد سيارات الوزراء الذي انتقده بنكيران ، فكان أحرى به أن يتذكر أن سيارات أعضاء حكومته حينها كلف تجديدها 3 ملايير و276 مليون سنتيم.
فكلكم “في الهوى سوا” آسي بنكيران.