بكائيات بنكيران على أطلال حزب فقد صلاحيته
بعد الخسارة المدوية التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في انتخابات 8 شتنبر 2021، والتي رمت به من صدارة الترتيب إلى الرتبة الثامنة، لم يجد بنكيران، الأمين العام للحزب، من أسلوب لنفخ الروح في التنظيم ومواساة أتباعه، سوى التباكي على أطلال حزب وُلد قيصريا وسُيِّرت له أدوات اختراق المجتمع والتغلغل في بنياته الدينية والاجتماعية تحت إشراف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الراحل عبد الكبير العلوي المدغري.
هكذا تم تمكين الحزب من كل مقومات الانتشار والهيمنة حيث اعتلى خطباؤه أغلب المنابر، وتحكمّت جمعياته في دواليب المساجد؛ كما اخترق وُعّاظه المجالس العلمية الإقليمية وباتوا يشرفون مباشرة على تعيين الخطباء والقيمين الدينيين من أتباعهم على مختلف المساجد.
لم يكن المجتمع المغربي بحاجة إلى حزب العدالة والتنمية حتى يلتف حوله، ولا كانت ثقافته وتديّنه ينسجمان مع إيديولوجية الحزب وعقائد التطرف والكراهية التي يتأسس عليها ويعمل على نشرها. فالشعب المغربي شعب محب للحياة والجمال والفنون والرقص. شعب متشبع بقيم التسامح والتعايش والاختلاف، جسدتها المساجد والكنائس والبيع التي تتجاور وتلقى نفس الاحترام من كل فئاته
لكن استراتيجية الأسلمة التي وضع أسسها ووسائلها وأهدافها التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، والحسابات السياسية الضيقة، سهّلتا انتشار إيديولوجية الحزب وتغلغلها بين المواطنين.
فالإسلاميون عموما، والبيجيديون على وجه الخصوص أول من رفع شعار الكراهية والعنصرية “هذا عار هذا عار واليهودي مستشار”، حين عيّن الملك الراحل الحسن الثاني المواطن المغربي، يهودي الديانة، أندري أزولاي مستشارا له.
ومما زاد من هذا الانتشار الإيديولوجي، استغلال البيجيدي وأذرعه الدعوية والإعلامية والجمعوية والإحسانية للدين أبشع استغلال لإيهام المواطنين بـ”طهرانية” أعضائه و”استقامتهم” و”إيثارهم” ولو كان بهم خصاص.
لم يفز، إذن، حزب العدالة والتنمية بصدارة الانتخابات بفضل مشروعه الانتخابي الذي خاض به الحملة الانتخابية، أو بتقديمه تجربة نموذجية في تدبير الشأن المحلي بالمجالس الترابية التي ترأسها، وإنما يعود فوزه إلى ما تلقاه من دعم ضمن “الفوضى الخلاقة” التي وضعتها ورعتها الإدارة الأمريكية في عهد أوباما، والتي جسد تفاصيلها ما بات يسمى زورا بـ”الربيع العربي” الذي دمّر دولا ومزق شعوبا وتنكّر لنضال وتضحيات الأحزاب الوطنية والديمقراطية.
فحزب العدالة والتنمية، كغيره من تنظيمات الإسلام السياسي في تونس ومصر وليبيا، هُيئت له كل الظروف للفوز بالانتخابات. وكذلك كان.
لكن، وبعد عقد من تسيير الشأن العام، أدرك المواطنون زيف شعارات البيجيدي وخطورة القرارات والإجراءات التي اتخذها على القدرة الشرائية لغالبية فئات الشعب. فكانت النتيجة أن تخلى الناخبون عن الحزب مثلما تخلى عنه الداعمون داخليا (تنظيمات إسلامية بسبب توقيع رئيس حكومته على اتفاقية استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وهو الذي جعل من أسسه الإيديولوجية مناهضة التطبيع) وخارجيا (قطر، أمريكا، تركيا).
طبعا هذا السقوط الفظيع بقدر ما كان مفاجئا لقيادة الحزب كان صادما لها لكونها ظلت تتوهم أن إيديولوجيتها تمكّنت من ذهنية المواطنين وباتت توجه سلوكهم وتحدد اختياراتهم.
صدمة لم يجد لها بنكيران من مسكّن غير التباكي على أطلال الحزب في البرلمان وفي المجالس الترابية خلال أشغال المؤتمر الجهوي لحزب العدالة والتنمية بجهة بني ملال خنيفرة، يوم 13 مارس 2022: “هادشي بزاف”، “ماشي معقول” “أن ننزل من الرتبة الأولى إلى الثامنة”. لماذا “ماشي معقول” نزول الحزب إلى هذه المرتبة، بالنسبة لبنكيران؟ لأنه لا يزال يعتقد “أن حزب “المصباح” ما تزال له مكانة مقدرة ومحترمة في قلوب الناس”.
تلك المكانة التي كان عليها الحزب واستمتع بها مالا وسلطة، ما عادت في الواقع سوى أطلال يتباكى على ذكراها أمينه العام الذي جيء به أملا في إنقاذ الحزب من الاندثار.
من هنا تباكى بنكيران على ما اعتبره مصدر اعتزاز وافتخار (من حق أعضاء العدالة والتنمية أن يعتزوا ويفتخروا بأن يسر الله لهم سبل المساهمة في جلب الخير لوطنهم وأمتهم.. كما لهم أن يعتزوا بأن قدموا للوطن، على مدى 20 سنة، مسؤولين ووزراء ورؤساء حكومات وجماعات، لم يثبت، ولن يثبت على أي عضو أنه مد يده للمال العام). هذا الحزب الذي يئن المواطنون، اليوم، بسبب قراراته الظالمة، ويخوض الأساتذة المتعاقدون سلسلة إضرابات بسبب أوضاعهم الإدارية الهشة التي فرضها عليهم بنكيران، لا يحتاج أن تُحاك ضده مؤامرة “محاولة إنهاء حزب سياسي”، كما يزعم بنكيران. إن هكذا تصريح لبنكيران يضعه في تناقض من أمره.
ذلك، أن الحزب الذي يزعم أمينه العام أن ” له مكانة مقدرة ومحترمة في قلوب الناس”، ليس من حقه أن يدعي وجود مؤامرة تستهدف الوجود التنظيمي للحزب.
لقد فقد الحزب صلاحيته بانتفاء الأهداف التي وُجد لخدمتها، وبات المواطنون يدركون جيدا أراجيف الحزب وتناقضات أعضائه ورموزه؛ وقد خبروا فساد مسؤوليه الحكوميين والترابيين وعدم كفاءتهم انطلاقا من طريقة تدبيرهم للشأن العام، ولملفات الفساد المعروضة على القضاء وتلك التي كشف عنها المجلس الأعلى للحسابات؛ لدرجة أن سعد الدين العثماني سبق أن تدخل، كرئيس للحكومة، لوقف التحقيقات مع أعضائه المنتخَبين حتى تمر الانتخابات.
هكذا اختار بنكيران التباكي على أطلال الحزب وإقناع أتباعه بوجود مؤامرة ضد التنظيم أملا في رص الصفوف وتجميع الشتات.
وعوض الوقوف على أخطاء الحزب في تسيير الشأن العام وفي التناقض بين الخطاب والممارسة، فضّل بنكيران اللعب، من جديد، على وجدان المواطنين وعواطفهم بتحريضهم ضد الهيئات النسائية والحقوقية والحزبية المطالبة بقانون جنائي عصري منسجم مع الدستور ومجسد لالتزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان.
ولن يصدّق المواطنون مزاعم بنكيران من كون “المملكة المغربية مهددة في مرجعيتها”، بسبب “دعوات البعض لإباحة العلاقات الجنسية خارج الزواج”، وقد تتبعوا تفاصيل الفضائح الأخلاقية التي تورط فيها رموز بيجيديين ومسؤولين ودعاة. بل إن بنكيران نفسه سبق وحذر أعضاء حزبه من انتشار التحرش الجنسي في صفوفهم وهم الذين يزعمون فضائل الأخلاق. إن الخطاب الأخلاقوي الذي يلوّكه اليوم بنيران، لن يُجْده نفعا، ولن يقنع المواطنين بجدواه في محاربة زنا المحارم وجرائم الاغتصاب، ورمي الأطفال في الحاويات أو التخلي عنهم في الأزقة، مثلما لم يقتنعوا من قبل، بأن مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية يستهدف الدين والأسرة والمجتمع، كما زعم البيجيدي وذراعه الدعوية.
والمطلوب من بنكيران اليوم، أن يساير مطالب القطاع النسائي لحزب “المصباح” بإلحاق الأبناء خارج إطار الزواج بآبائهم البيولوجيين ضمانا لحقوقهم.
أما التجريم والتحريم والمنع فلم يعد المجتمع ينضبط لها؛ لهذا باتت الحاجة ماسة إلى منظومة قانونية عصرية تواكب تطور المجتمع وتؤطر حركيته بما ينسجم مع قيم العصر وثقافة حقوق الإنسان اللتين يناهضهما بنكيران وحزبه.