المقزز والمفرج في زمن الحجر !
ما ألمني مع انطلاق فترة الحجر الصحي الذي يربو على الشهرين، التصرفات التي صدرت عن البعض قبل أن ينشب الوباء مخالبه، حين أشاعوا قدرا من الفوضى والارتباك خوفا من اتساع أحزمة الجوع والجائحة، وكادت وطأة غلاء الأسعار أن تشتد، ووشك أن يتبعها ذيوع أعمال السلب والنهب، واللجوء إلى السطو والعنف على غرار ما وقع في بعض الدول.
وكاد السلوك الموازي للوباء أن أن يهد أركان السلم، ويفرق الخلق ويخرب العيش، ويراكم الأهوال التي تجل عن الوصف والنعت. فقد انطوت مشاعر مجهولة عند البعض بالإحساس بوخزات الجوع القادم، واستحالوا كائنات ضارية، وانساقوا على غير هدى إلى الأسواق بلهف يحصدون المواد بوفرة من أجل إشباع الجوع القاتل الذي يهددنا. وكانت الحرب سجالا بين المتهافتين على خزن المؤونة بلهف. وبلغ الأمر أشده فأصبح الناس يعانون من قلة بعض الأقوات المعروضة في الأسواق. وكأنها سنة يبس وقحولة نكبت بالبلاد إلى المواسم العجاف. وبدل أن نخطو برزانة إلى الأمام لتحدي هجمات الموت القادم، كدنا نرتد إلى الوراء نفترس الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب والخنازير والجيف، كزمن كان المفتون يجيبون بأن لا بأس للمضطر من أكلها للتزود منها. ولربما كدنا نسلك الهجرة والفرار ووأد الأولاد والارتداد عن الدين والسرقة لنخلص أنفسنا وذريتنا شر الجوع المحدق الذي أناخ بكلكله. وفي غمرة هذه القلاقل التي اندلعت، أخدت الدولة زمام الأمور فانهد المخزون على خازنه واستأنف المغاربة حياة عادية في تمويل الأسواق والضرب على أيدي كل مهيف يصبو إلى غلاء الأسعار. وعندما اتخذ الوباء شكله الكاسح، حققنا انفراجا أخطر من الوباء عندما استراح المغاربة من شبح وباء الجوع الخطير.
وحل الشهر الفضيل، وانضاف إلى تقززي مما ذكرت، حزني على فراق المسجد الأعظم بسلا، وأوشكت أن أستنفذ احتياطي من أوكسيجين استجمعه كل رمضان بين عتباته، أنا المتعلق قلبه بفناءه وماء نافورته ترى كيف لي الا أجلس القرفصاء أمام القبة المقرنصة المقابلة للمحراب للتلاوة الجماعية للحزب بعد صلاة العصر، وكيف لي أن لا أشتم عبق مسك سجاداته، ورائحة حصير أركانه. لقد قضى الحزن وطره مني، لكنني لم أحبل حتى تسللت إلى هاتفي خفية رسائل النجدة قادمة من عند أحد أبناء سلا البررة التي تدين له بالشيء الكثير: أنها حلقات مرئية قصيرة، حبكت بتقنية عالية، تحمل ذخائر المسجد الأعظم.
سبحان الله! أهو دليل الصالحين لطرق باب الميؤوسين؟ هكذا حسبته واحتسبه عند الله من الحسنات الجارية لمنجزها، الذي أحيى ذكرى وجوه مؤمنة صدقت ما عاهدت الله عليه منها من قضى نحبه ومنها من ينتظر، اجتمعت كلها في حب الله وخدمة بيوته… إنه الألمعي عبد المجيد فنيش الذي توفق في تخصيص سلسلة حلقات موجزة لتاريخ المسجد وللقيمين عليه من علماء وفقهاء ومؤذنين ومشفعين وأعوان ومنظفين ومريدين. كان ذلك بتوثيق جيد، زاوج بين الصور النادرة و التعليق الذي ينم عن تمكن الباحث من مادته وم لغة بادخة، وهذا ما عودنا عليه صاحب الإمتاع والمؤانسة. فكنا ننتظر هذه الحلقات بلهف شديد، وننتشي بما تتطرق إليه من مواضيع وما تقدمه من وثائق نادرة حول مكونات تلك المعلمة. وبذلك، فتح عبد المجيد فنيش نوافذ للباحثين والدارسين والمهتمين والمتدخلين، لتعميق النقاش والبحث حول جوانب مهمة، سواء في ما يتعلق بالفضاء أو الرصيد العلمي والثقافي المرتبط بتاريخه، وتطور بناءه وبرجالاته. ولا يسعنا إلا أن نتقدم بجزيل الشكر للأستاذ عبد المجيد على هذا التوثيق المرئي الذي سأعزز به رفوف مكتبتي، وسأرجع إليه في كل مرة وحين لأنهل من خيراته. وبهذا أصبحت سيدي عبد المجيد:
– أنت الآخر جزء من ذاكرة هذا المسجد! فطوبى لك، لقد استطعت أن تنسيني تقززي من تصرفات البعض في هذا الحجر كما خففت ألمي على فراق المسجد الأعظم مؤقتا لكنك جمعتني به روحا!