المغرب: الوضع السياسي وخيارات ما بعد كورونا (1/2)
حاول رئيس الحكومة سعد الدين العثماني في خطابه الاخير، امام البرلمان بغرفتيه، استعادة الأجواء الحماسية التي رافقت بدايات التصدي لجائحة كورونا، حيث ساد الساحة الوطنية، ولبعض الوقت، اعتقاد بانه بالإمكان تحويل الإجراءات المتخذة على الصعيد الرسمي في مواجهة جائحة كورونا، وما حظيت به من تجاوب شعبي واسع، الى حالة اجماع وطني، يكون بمثابة نقطة ارتكاز لاطلاق نهضة مغربية شاملة، طال انتظارها، على الاصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وذلك بدون أن ينتبه الى أن حكومته هي بالذات من عمل كل ما في وسعه، باتفاق أو بدون اتفاق بين مكوناتها، على ابطال مفعول هذا الاعتقاد الواهم لدى المواطنين من الأساس.
لعل مما كان قد عزز انتشار هذا الاعتقاد بين الناس في البداية، تفعيل الحكومة لمبدأ “السيادة الوطنية” بإغلاق المنافذ الحدودية، ووقف حركة السفر الدولية من والى البلاد، واستحداث صندوق للتضامن مع الفئات الهشة والمتضررة من الاجراءات المتخذة في مواجهة الوباء، وأيضا ما شهدته البلاد من تعبئة عامة، كان لها بالغ الاثر في مواكبة تنفيذ هذه الاجراءات من طرف المجتمع المدني، ومختلف القوى الحية، وفئات الاطر الطبية وشبه الطبية، ورجال التعليم، وعمال النظافة، والقوات النظامية، والشباب المخترعين، وصناع المحتوى في الانترنيت، .. وحتى من طرف بعض رجال الاعمال والفئات الميسورة .. يضاف الى ذلك كله امتثال المواطنين في الغالب الاعم لمقتضات الحجر الصحي، ولو في حدود الالتزام بلزوم بيوتهم.
ظل ذلك هو الاعتقاد السائد لدى فئات عريضة من المواطنين الى ان تم الكشف عن وجود شيئ اسمه مشروع قانون 22.20، بتسريب مقصود أو غير مقصود، لا يهم، ففث ذلك في عضد الجميع، ودل بما لايدع مجالا للشك على أن ما هم ويهم هذه الحكومة من الاجراءات المعلنة ومن التعبئة الشعبية التي واكبتها، بالدرجة الاولى، هو تظافر جهود اسلامييها وعلمانييها، اشتراكييها ورأسمالييها، وما بين الحدين من انتهازيين ووصوليين ومقتنصي فرص وخدام دولة، من أجل غاية أساسية واحدة بالنسبة لهم، هي تحصين احتكار اللوبي الطبقي الذي يمثلونه، للسلطة والثروة، وحماية مصالحه من مفاعيل جائحة كورونا وتعويض خسائره الناجمة عنها، وأيضا قطع الطريق على الاحتجاجات الاجتماعية المتوقعة بفعل الازمة الحادة التي دخلتها البلاد، لذلك كان من باب تحصيل الحاصل أن جعلت هذه الحكومة من مشروع قانون 22.20 كلمة السر لعملها، والمبرر الاساسي لتحركاتها خلال فترة الحجر الصحي وما يلها، حتى ولو انها علقت استكمال مسلسل المصادقة عليه الى حين.
لعل مما استثار الرأي العام الوطني ونبهه الى خطورة هذا المشروع، سوابق الحكومة في هذا الباب، اذ انها لم تنتظر الى حين تفشي جائحة كورونا في ارجاء البلاد كي تمارس قمعها وتهديداتها لحرية التعبير في فضاءات الشبكة العنكبوتية، بل أنه لم يسبق لها أن ترددت، ولو للحظة، في تسليط عقوبات ظالمة على الصحافيين والاعلاميين ونشطاء فضاءات الشبكة العنكبوتية، كلما تعلق الامر بأصوات تعبر عن الحراكات الاجتماعية، تكشف ملفات الظلم والفساد، وتدعو للعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان، والحريات الفردية والعامة، معتمدة في ذلك مختلف القوانين القمعية بما في ذلك القانون الجنائي، كما لم تخف تهديداتها المتكررة لنشطاء الشبكة، بإغراقهم في الويل والثبور وعظائم الأمور.
لقد جرى ذلك بصورة مسترسلة وبدون ما حاجة لقانون قمعي خاص بتكميم افواه نشطاء الشبكة العنكبوتية، من أيام الدعوة الى مقاطعة البضائع التي تعرفونها.. وتعرفون أصحابها، وحتى الآن، بل ان كبيرهم الذي علمهم السحر، لم يكن في حاجة لاي أداة قانونية لكي يقوم بتهديد المغاربة جميعهم بإعادة تربيتهم، وتحريض بعضهم على بعض، وذلك بطبيعة الحال تبعا لما تقتضيه مصالحه الخاصة، ومصالح حلفائه، كما وأيضا بالأسلوب الذي يناسبه ويناسبهم، أما الان فقد تغيرت الظروف وتبدلت الشروط بفعل هذه الجائحة.
هذه الحكومة تدرك أنه كان وسيكون لأزمة كورونا آثار وخيمة على المجتمع المغربي، بدء من مخلفات تعطيل دواليب الإنتاج، لفترة طويلة، بمقياس الزمن الاقتصادي، والاضرار بالمقاولات الصغرى والمتوسطة، وافلاس عدد كبير منها، وفقدان مناصب الشغل بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد، وضرب القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، وتعليق المبادلات التجارية مع الشركاء التقليديين إلى أجل مسمى، كما تدرك أن هذه الازمة ستزيد من حدة وتفاقم المشاكل التقليدية المزمنة للبلاد وعلى رأسها البطالة والفقر، وتردي الخدمات الاجتماعية خاصة في ميداني التعليم والصحة، اضف اليها مشاكل البيئة، واستنزاف ثروات البلاد لفائدة الرأسمالية المتوحشة والنظام الكولونيالي الجديد.
على كل حال، فإن ذلك لا يعني أن وضع مشروع هذا القانون المشؤوم أملاه تفشي الوباء في أرجاء البلاد.. هكذا فجأة وبلا مقدمات، بل على العكس من ذلك كان يجري الاعداد له، عن سبق اصرار وترصد ضمن برنامج متكامل لوضع ترسانة قانونية قمعية لم تظهر كل تفاصيلها بعد للوجود، حتى أنه تردد، والله اعلم، بأن اقالة وزير العدل السابق من منصبه، تمت بالتحديد لانه لم يساير، أو ربما اعتبروا أنه لم يكن في مستوى رغبة أطراف التحكم، في وضع مشروع قانون لتكميم الافواه بالمواصفات التي تم الكشف عنها، وهي المهمة التي قبل وزير العدل الحالي التصدي لها بصدر رحب، ولهذا السبب بالذات تم تعينه في هذا المنصب وقيل له “زه”.
أما ما لوحظ من تهافت وتسرع في اقحام مشروع 22.20 في آخر لحظة، وعلى غير المعتاد، ضمن جدول اعمال مجلس الحكومة، والمصادقة عليه بسرعة البرق في اجتماع 19 مارس الماضي، أي في اليوم نفسه الذي اعلنت فيه حالة الطوارئ الصحية، فأملته الرغبة في استغلال الفرصة التي اتاحتها ظروف الحجر الصحي وما رافقها من مراسيم جزرية، لفرض المصادقة عليه كأمر واقع، لولا ما جوبه به من رفض واستنكار قوي من طرف الرأي العام الوطني ومختلف القوى الحية في البلاد، رفض واستنكار، أديا في ما أديا إليه إلى ارتباك واضطراب واضح في مواقف مكونات الائتلاف الحكومي، بين مؤيد للمشروع داخل المجلس الحكومي، وناكر له في الهيئات القيادية للأحزاب المشاركة، على طريقة “قلوبنا مع علي وسيوفنا مع معاوية”، ثم تعليق المصادقة عليه إلى حين.
يتبع…