الفيسبوك وإعادة تصنيع الإنسان
قد لا يختلف عاقلان على أن مجتمعنا قد انصهر كيفما كان الحال في التغيرات الجذرية التي اجتاحت العالم أجمع. ترك ما ترك من عادات و تقاليد و استحدث ما استحدث… أكيد كان ذلك و قطعي بحكم أنه ما من مجتمعٍ مهما بلغ من التماسك لا يستطيع مقاومة المد الجارف للعولمة التي تسعى بشكل أو بآخر إلى تنميط الكائن البشري وقولبته وطهيه في نفس الفرن الاجتماعي.
من المثير للانتباه ما يقع للإنسان في عوالم مارك الزرقاء. حيث تكنولوجيا المشاعر توحد نمط الشعور لدينا تُمَكْنِنُ أحاسيسنا وتجعل منا روبوات مبرمجة ليستحيل علم النفس إلى علم الميكانيكا. ما من شخص يستيقظ صباحًا إلا ويفتح حسابه في الفيس بوك ليبوح بمشاعر لربما يرفض مبدئيا البوح بها مباشرة لإنسان آخر. يجيب عن السؤال – بما تشعر؟- وقد لا يعني بالضرورة أنه حزين أو مكتئب أو فرح أو أو أو…. بل قد لا يجد في لائحة مارك للمشاعر كلمة مناسبة تصف شعوره وما يخالجه. بل قد نذهب أبعد من ذلك ولا نحيد عن الصواب عندما نقول أنه تم قتل ملكة أُسْميها ملكة كشف شعور الآخرين، عندما كنا نستلذ بمجهود نفسي عاطفي لمعرفة نفسية الآخر دون أن نسأله –بما تشعر؟ – فكان الإنسان من خلالها –هذه الملكة- يعيش إنسانيته وغيرية الأخر.
هي رغبة مشبوهة لدحر فكرة أن الإنسان كائن معقد حارت فيه ألباب المفكرين على مر العصور فكانت أبحاثهم على الرغم من كونها مطولة ومعمقة لا تبارح المستوى الوصفي والافتراضي لتقف هناك عاجزة – ومقرة بذلك- مبررة عجزها بعدم توافر معطيات دقيقة وموحدة عن أنماط الشعور لدينا نحن بنو البشر. واستهدافها كحد أقصى للسلوك باعتباره ترجمة الشعور المباشرة والوحيدة التي يمكن قياسها وإخضاعها للأسس العلمية المحضة. لكن نقول للسلوكيين هنا أن ليس كل سلوك يعبر عن شعور وليس كل شعور قد نترجمه لسلوك. بل قد نضرب صحة فرضياتهم ببساطة من خلال نسبية تشابه أنماط الاستشعار الحيواني والشعور الإنساني…
من جهة أخرى، اعتمد الفيس بوك على الكوجيطو الديكارتي بشكل صريح حين قرن التواجد أو الوجود بفعل التفكير فبادرنا مارك بسؤاله – بما تفكر؟-. جميل هذا الطرح ودعوة قد تبدو للملاحظ البسيط أنها تحفيز لتحريك عقولنا ووعي الأشياء من حولنا بفعالية بل قد نثني على مارك رغبته في تقديس العقل البشري كونه جعل هذا السؤال في الأعلى كناية على علو العقل وسموه . لكن ما يعاب هنا هو تسميم عقلياتنا من خلال عرض كم هائل من الأفكار لدرجة الحيرة. أفكار متشابهة حد الاختلاف. متجانسة حد اللااتساق. منسجمة حد التنافر. أفكار غلب فيها الكم على الكيف لننصهر عبرها في بوتقة من التناقض الذي لف العالم ولف الإنسان تحديدا. فنحن مثلا مع تركيا وضدها. لازلنا لم نع بوعينا الفتي ما يدور أمامنا وما يحبك خلفنا. لكننا نصر على أننا نفهم ونفكر الأشياء. لذلك ننصاع لدغدغة الفيس ونجيب على سؤاله التقليدي –فيما تفكر؟-. هذا ومحاولة الموقع قتل الإنتاجية وتشجيع التنميط الجماعي وذلك عن طريق أيقونة لا تقاوم وكأنها عصا سحرية لبناء المستحيل في ثوان معدودة إنها أيقونة المشاركة التي بفضلها يستطيع المتصفح تبني أفكار حقيقية ليجعلها نسخا مشوهة لفكر إنساني يغوص في التبعية وإنتاج بوعي أو بدون وعي للغباء البشري الخالص.
الفيس بوك نصب نفسه موقعا للتواصل الاجتماعي وهنا أسطر بخط أحمر على مصطلح (الاجتماعي) فهو موقع كسر الحدود الإقليمية وضرب بعرض الحائط الاتفاقيات والحروب الدولية وجمع جميع فئات المجتمع الإنساني فغض الطرف بشكل صريح ومعلن عن الجنسيات والانتماءات والأيديولوجيات والمرجعيات والديانات والأعراق والأجناس…. وإن كان في مرحلة إنشاء الحساب يطلب ذلك ويلح على إجباريته. لكني هنا أطرح تساؤلا بسيطا: هل الموقع حفز النزعة الاجتماعية الطبيعية في الإنسان أم حد منها؟ الجواب عميق جدا وهو أن مارك رَسْكَلَ إن صح التعبير اجتماعية الإنسان أي أعاد تصنيعها. لقد تمكن في وقت وجيز أن يفرق الإنسان عن الإنسان ويربط الإنسان الذي هو إنسان بإنسان غير الإنسان… كلام ربما يبدو لغير المنفتحين على الفلسفة غامضا. لكني سأبسط الأمر.
أيعقل أن يجهل إنسان مشاعر من حوله –إخوانه مثلا- ويعرف مشاعر أناس تفصلهم عنه آلاف الكيلومترات من المحيط الأزرق…؟ أيعقل أن يكون الإنسان يميل للفردانية ويدعي أنه اجتماعي بحكم مئات الجيمات التي ينالها في الفيس بوك؟
أيعقل أن ينجح الإنسان افتراضيا ويتعب في فهم أساليب النجاح الواقعي؟ قد تفطر العائلة إفطارا جماعيا لكن كل فرد منشغل بالنقر على هواتف ادعت الذكاء، قهقهات قد تسمعها وسط سكوت مطبق، تأثر قد يبدو على محيا أحدهم والسبب هو قصة في الفيس، تجمع هو إذن أكثر منه اجتماع عائلي.
أختم هنا مقالي هذا بالتصريح أنني لا أدعو لمقاطعة مواقع التواصل الاجتماعي بقدر ما أدعو إلى أن نعي ما يقع ويدور حولنا بل فينا. إلى أن نمنطق استهلاكنا وإنتاجنا. إلى أن نرجع إلى جادة الصواب في شأن تعاملنا مع الواقع المتعولم . إلى أن نعيد صناعة واقعنا بما يحفظ ذواتنا والأهم من ذلك إنسانيتنا.