كرونيك

العميقون

تغيرت أشياء كثيرة منذ شهر مارس الماضي، بعد انتهاء الحجر، عادت الحركة للشوارع والساحات والأزقة، لكن اختفت صور كثيرة من مظاهر الحياة العامة.

على سبيل المثال، فقد صمت عزف مجموعة من فناني الشارع، عزف اعتاد أن يجذب جمهورا صغيرا بشارع محمد الخامس في الرباط.

كما قل ظهور مجموعات صغيرة من الشباب والمراهقين يصفهم البعض بسخرية لاذعة، بالعميقين.

أظن أن معظم الناس يجهلون هذه التسمية، رغم ملاحظتهم المتكررة لتلك “القبيلة” الغريبة وهي تتجول بكل حرية.

تتبعت خطوات مجموعة من “العميقين”، لا يبدو أنهم مهتمون بما يجري حولهم. ذكورهم وإناثهم يتجولون بقصات غريبة ومثيرة للانتباه: يتدلى شعر إحداهن بشكل غير متواز، خصلات الشعر على يسار الرأس أطول بكثير من الواقعات يمينه. بجانبها، زيّن شاب طويل ونحيف حلمة أذنه بقرط غريب، يذكرني بمشهد من فيلم قراصنة.

حتى سراويلهم وقمصانهم غريبة في ألوانها وفي أحجامها، فهي إما كبيرة أكثر مما ينبغي، أو على العكس تماما، تنقصها سنتميترات معدودة لتصل المقاس العادي.

حين تصل الكوكبة الغريبة إلى زاوية في الحديقة العامة، تستقر بهدوء فوق كرسي حديدي أخضر.

ها هم يناقشون همسا أشياء تخصهم، ينصتون لموسيقى مختارة بعناية، فيما يدخن البعض منهم متأملا الأخرين.

هذا المشهد ليس جزء من شريط سينمائي، ولا أحداث تقع خارج الوطن.

هذا الجمع يتجول داخل عاصمة المملكة، قد تصادفه في مركز المدينة أو في أزقة حي أكدال.

هؤلاء هم العميقون.

يتواجدون أيضا في الدار البيضاء وفي طنجة ومدن أخرى.

لا أعرف حقا ما يدور داخل عالمهم المغلق والخاص.

قد يقول قائل، إنه مجرد اختلاف أجيال يجعلك تتوهم أنها طائفة خاصة. لكن هم  يثيرون في المارة الدهشة، الاستنكار والذهول.

إنهم مرشحون لمغرب الغد، مسلحين بنظرة “عميقة” لمواجهة الحياة.

أستحضر سنوات السبعينات والثمانينات حيث اختلطت ظاهرة الهيبيزم، باليسار وأفكاره وأغاني الغيوان وموسيقى الديسكو وبوب مارلي وفلسفة سارتر ورقصات الأفلام الهندية.

أنتجت تلك الثقافة جيلا هو من يتموقع اليوم في مناصب المسؤولية، ومن يحن إلى ماضي أبيض وأسود انتهى وجوده.

لا أملك ما يكفي من أدوات التحليل السوسيولوجي لدراسة الظاهرة وتفكيك تفاصيلها.

هي مجرد تأملات أتقاسمها، وأتمنى أن تحظى بدراسة جادة.

أمام سطحية النقاش السياسي، وسطحية معظم المواضيع التي تتناولها بعض الصحافة، على شاكلة مشاكل “روتيني اليومي” ومحاكمات مضحكة بين نجوم غناء يتبادلون تهم التشهير عبر المواقع الاجتماعية، يبدو أننا فعلا بحاجة لبعض العمق.

طرح سيغموند فرويد حقيقة أنه في بداية القرن العشرين، كان يوجد تباين تقليدي بين العمق التاريخي والثقافي لأوروبا والسطحية التي تتميز بها الولايات المتحدة الأمريكية.

في بداية القرن الواحد والعشرين، ليس هناك من شك أن السطحية انتصرت على العمق في جميع المجالات.

أما إذا كنت ممن يجدون أن  كل شيء صار يشبه البصل، مهما نزعت عنه من قشور، لا تصل أبدا إلا إلى مزيد من القشور.

فلا شك انك تحمل فيروس البحث عن العمق، لكن دون أعراض ظاهرة للعيان مثل جماعة العميقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock