رؤى منطقية

العمارة السوفياتية: برج تاتلين

(الشكل والوظيفة والإلهام)

ترجمة وديع بكيطة (مترجم وباحث)

صدر للصحفي تيم برينكوف Tim Brinkhof على موقع www.bigthink.com ليوم 5 أكتوبر 2021 بالقسم الثقافي مقال بعنوان Tatlin’s Tower and the untapped potential of early Soviet architecture ما ترجمته بـ” العمارة السوفياتية: برج تاتلين. (الشكل والوظيفة والإلهام)، والذي يعالج فيه العلاقة بين الهندسة المعمارية وإيديولوجية الدولة السوفياتية، الأمر الذي يمكننا من فهم طبيعة هذا التوازي بين ما هو هندسي معماري وما هو إيديولوجي ثقافي فكري في مواقع وبلدان أخرى:

حاول البلاشفة بناء نصب تذكاري شاهق تعبيرا عن الفكر الاشتراكي، لكن هذا العمل لم يتحقق له النجاح.

قرر فلاديمير لينين بعد نجاح الثورة ترسيخ حكمه، فأمر بإنتاج أثر معماري يعزز هوية الدولة الوطنية الجديدة المتمثلة في “الاتحاد السوفياتي URSS”. أبدع المهندس المعماري فلاديمير تاتلين تصميما لبرج ارتفاع 400 متر، كان الهدف منه أن يصير مقرا حكوميا رئيسيا للعديد من القطاعات والمنظمات الأخرى. لو تم بناءه، كان سيكون أحد عجائب العالم الحديث.

في سنة 1920، كشف تاتلين بفخر عن نموذج خشبي لهذا النصب التذكاري المراد إنجازه، والذي افترض أن يتجاوز برج إيفل، وهو يرمز للأممية الثالثة. والذي كان من المقرر إنجازه في مدينة بتروغراد، حاليا هي مدينة سانت بطرسبرغ.

عرف إنشاء البرج تضارب أراء بين المسؤولين في الحزب الشيوعي؛ إذ أكد ليون تروتسكي أن هذه الفكرة كانت “غير عملية وحالمة”. بينما تحمس لينين وأناتولي لوناشارسكي للفكرة؛ لأن الفكرة بحد ذاتها تخدم المشروع الشيوعي واليوتوبيا الذين يحاولون جاهدين ترسيخها في الواقع.

تعتبر هذه الفكرة عبقرية في زمنها، بالنظر إلى السياق التاريخي الذي جاءت فيه. قام الثوار البلاشفة سنة 1917 بانقلاب، حولَ روسيا من حكم القيصر “نيقولا الثاني” إلى دكتاتورية البروليتاريا. وبقي بعض المتعاطفين مع النظام القيصري السابق، الذين يسمون بـ”البيض”، يحاولون إعادة النظام السابق وما تبقى من سلالة رومانوف إلى الحكم، لكن الثورة تمكنت وقضت عليهم، وعلى الفرق الأخرى الاشتراكية، التي لم تستفد من النظام الجديد.

فعلا، انتصرت الثورة البلشفية، لكن النظام كان لا يزال هشا، وقد احتاجت من أجل تدعيم سلطتها وسط الجماهير إلى دعاية، تستطيع من خلالها ترسيخ قيم الدولة الوطنية الجديدة، عبر مشاعر الفخر والاعتزاز بالقيم الجديدة. أنشأ الحزب الشيوعي الحاكم مؤسسة ضخمة خاصة للدعاية، كان تاتلين هو المسؤول عنها، وقد كان اختيارا موفقا، قامت المؤسسة بنشر الكتيبات وخطابات لينين…الخ. وسعت إلى محو ملامح روسيا القيصرية “من نصب تذكارية خاصة بالقيصر أو أقيمت على شرفه…الخ” وعوضتها بكل ما يمجد “الثورة والفلسفة الماركسية اللينينية…الخ”، كما أنشأ مقر حكومة بشكل جديد يتماشى والسياق الآني آنذاك.

ورد في الموسوعة السوفياتية العظمى، بأن النصب التذكارية السوفياتية النموذجية هي “وسيلة للدعاية من أجل انتصار وترسيخ النظام الجديد، ومن أجل تنوير وتعليم الجماهير الشعبية”.

عرفت الهندسة المعمارية السوفياتية آنذاك روادا من مثل: تاتلين وكازيمير ماليفيتش  Kazimir Malevich، وهو مؤسس الساحة السوداء الشهيرة…الخ. بدأ تاتلين مسيرته الفنية باعتباره رساما، كان يرسم في الغالب أيقونات الكنائس الأرثوذكسية المسيحية، وأصيب بخيبة أمل من رمزيتها الدينية وتخلى عن ذلك، وعن كل القيود الفنية الدينية، وحرص على إبداع ما له تأثير مباشر ونفعي على حياة الناس، فاهتم بالهندسة المعمارية. شكل هؤلاء الرواد حركة نوعية معمارية وثقافية، وأنجزت أغلب النصب التذكارية من طرفهم، وخاصة تاتلين. واعتبرت فكرة إنشاء هذا البرج ثمرة هذه الحركة، والذي لم يتم بناؤه، للأسف.

برج تاتلين: الشكل والوظيفة

كانت رؤية تاتلين للنصب التذكاري تختلف عن أي شيء عجيب شهده العالم من قبل. كان من المتوقع أن يكون ارتفاع البرج 400 متر، يقوم على شكل حلزوني متشاكل، يحتوي أربع أبنية متميزة عن بعضها، تتنوع أشكال فضاءاته الداخلية ووظيفة كل منها. المساحة الأولى، وهي مكعب يقع بالقرب من قاعدة البناء، خصصت للمحاضرات والمؤتمرات والهيئات التشريعية. ويقع فوق المكعب هرم يمكن استخدامه لاجتماعات الحزب التنفيذي. وفوق الهرم كانت هناك أسطوانة هي مركز معلومات يبث الأخبار والإعلانات والبيانات.

لو اكتمل هذا البرج، الذي كان سيبنى من مواد محلية “حديد، صلب، زجاج”، كما أراد مصممه “تاتلين”، لاعتبر رمزا لهذه الفترة السوفياتية المبكرة، ومؤشرا على الطبقة العاملة. بالمقابل، كانت أغلب المباني الحكومية في البلدان الرأسمالية تزين عادة بالرخام والعاج وغيرهما من المواد الباهظة الثمن.

كتب أليكسي كوربانوفسكي Alexei Kurbanovsky عن رمزية هذا التصميم، في مقال مجلة Slavic Review وقال:” بأنه يشكل ثورة في المعمار، مثلما شكلت الثورة البلشفية محطة فاصلة في بداية القرن العشرين. ويمكن تأويله أيضا على أنه “رفض لصورة الأب” التي كشفها فرويد في تحليله للشخصية الإنسانية”.

تم تصميم برج تاتلين في وقت كان فيه الحكم الشيوعي لا يزال في بدايته وسعى قادة الحزب من خلاله إلى ترسيخ هوية اشتراكية جديدة ومميزة من خلال الفن. كتبت أليسون ماكنيري Allison McNearney في مقال بمجلة The Daily Beast وقالت:” بأن السوفيات احتفلوا بماضيهم بنفس الطريقة التي احتفل بها القياصرة من قبلهم: من خلال اللوحات والمنحوتات التي تمثل شخصا معينا أو حدثا معينا”. (أنظر مقال: أليسون ماكنيري. لماذا لم يتم إنجاز برج تاتلين. 22-05-2017). بالفعل كان هذا التصميم فريدا، لأنه لا يقوم على التمثيل، فبدلا من تعبيره عن صورة المفرد، عبرَ عن طبقة اجتماعية واقتصادية كاملة من الناس.

برج تاتلين: عملٌ مُلهم

اعتبر تروتسكي منذ البداية مشروع “البرج” مجرد طموح وحماس زائد، لا يمكن أن يتحقق. بينما باقي قيادات الحزب رغم الانتقادات الطفيفة لتاتلين، فقد تحمست للمشروع. قالت مؤرخة الفن كاميلا جراي Camilla Grey في كتابها “التجربة الروسية في الفن” عن روسيا ما بعد الثورة: “إذا حاولت روسيا الحصول على كميات ضخمة من الفولاذ والحديد اللازمة لبناء البرج، فإنها ستفلس”.

يحتوي البرج أربع أبنية متميزة عن بعضها، تتنوع أشكال فضاءاته الداخلية ووظيفة كل منها. المساحة الأولى، وهي مكعب يقع بالقرب من قاعدة البناء، خصصت للمحاضرات والمؤتمرات والهيئات التشريعية، تدور دورة كاملة مرة واحدة في السنة. ويقع فوق المكعب هرم يمكن استخدامه لاجتماعات الحزب التنفيذي، يحتاج إلى شهر ليدور حول محوره. وفوق الهرم كانت هناك أسطوانة هي مركز معلومات يبث الأخبار والإعلانات والبيانات، يدور مرة واحدة في اليوم، ويقدم رؤية 360 درجة لمدينة بتروغراد.

يعتبر البرج حتى الآن مصدر إلهام للعديد من الإبداعات المعمارية الحديثة، بحيث عمل البعض على دمج صورة منه في أعمالهم الخاصة. نموذج تمثال “Ai Weiwei”، و”نافورة الضوء The Fountain of Light” المعروض في متحف اللوفر في أبو ظبي، الذي هو في الأساس نسخة كربونية من برج “تاتلين”، تم استخدامها لتكون ثريا.

بعد تعذر بنائه، قرر الحزب التركيز على المؤسسات الثقافية؛ في البداية، دعم هذا الطرح كل من الموسيقيين والفنانين والأدباء والمهندسين المعماريين… وعملوا بكل ما أتيح لهم من أجل ترسيخ منظومة قيم الثورة، لبناء عالم جديد. لكن بعد ذلك، وبتولي جوزيف ستالين للسلطة، تعرضت هذه الحركة للقمع والتضييق من طرف البوليس السري للدولة السوفياتية. وتبنت أغلب الأعمال بعد ذلك النزعة الواقعية، تماشيا مع السياسة الجديدة، والتي همشت كل ما قد ينحو منحى “تاتلين” في الإبداع، وركزت على الفن التمثيلي التقليدي، الذي جعل واقع الحياة السوفياتية يبدو أفضل مما كان عليه في الواقع.

ـ تيم برينكوف Tim Brinkhof: صحفي هولندي المولد، يقيم بنيويورك، له العديد من المقالات الصحفية عن الفن والتاريخ والأدب. درس الرسم الهولندي المبكر والأدب السلافي في جامعة نيويورك. عمل كمساعد تحرير لمجلة Film Comment، وكتب لمجلة Esquire، Film & History، History Today، و History News Network.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock