الشاعر محمد الميلود غرافي يكتب: غزالها والنوار (شعر)
دانْ دَني دانْ دَني دايْني
تلكَ أنتِ. وتلكَ آخرُ قَطرةٍ في الأغاني التي بالحنينِ تمُدُّني وتردُّني منْ مَنفايَ مُلقىً على الأشواقِ مثلكِ سالكاً بعضَ الطريقِ وبعضهُ أُلغيهِ. هلْ وهرانُ أمْ بركانُ أمْ أحفيرُ بينهما تَـنصُبُ الإيقاعَ في باربيسَ ليلَ السبتِ أو تطويهِ تحتَ ذراعها سرّاً بالنهارِ لكيْ تشتهيهِ؟ أمْ شذى العرعارِ يحملـُني إليكِ وحُمرةُ الحنّاءِ في البـَنـْديرِ قبلَ اليدينِ وصرخةُ القصبِ الحزينِ ورجْعُ صدىً منْ بعيدٍ كأنَّ بهِ صِبايَ وبعضَ متاعِ جَدّيَ؟
كمْ بكيْتُ على الرَّصيفِ، رصيفِ مقهىً يدسُّ بهِ الصِّحابُ أنينَهُمْ في الأُغنياتِ ورقـْصةِ الكتفينِ قبلَ البُكاءِ على الرصيفِ مثليَ آخرَ الليلِ. كمْ شاهدتُ منْ قـَدمٍ تـُثيرُ النـّقـْعَ حَوْلكِ بعضُها نخـْبٌ هواءُ وبعضُها تـَرْمي النِّعالَ وتكـْتَفي بشُقوقِها حتّى يستقيمَ الليلُ والميزانُ والذكرى الأليمةُ والبلادُ وما تبقـّى منْ راتِبِ الشّهرِ الهزيلِ. هلْ أطربْتِ ما يكفي لينْسى الوافدونَ إلى الحياةِ نصيبَهُمْ منَ الألمِ الشديدِ وينْسى الوافدونَ إلى المنافي قيْئـَهُمْ في العُبابِ وآخرونَ عِناقَ الأحِبّةِ في المطارِ وفي الحقائبِ خِلْسَةً بعضُ ما يُلْغي الحُدودَ: توابلٌ وتمائمُ الجدّاتِ، كَعْكُ الأُمّهاتِ، الزّعْتَرُ، التبْغُ والأَعْشابُ.
في غُرفةٍ كادتْ تـَضيقُ بنفْسِها في باريسَ كانَ جدّيَ قبلَ العِشاءِ وبعدَهُ يضعُ الأُسْطُوانَةَ في الجِهازِ ويقـْتفي أَثـَرَ الأحِبـّةِ في المَواويلِ الحزينةِ صاعِداً بـِنَشيدِكِ البدويِّ سيرَةَ عُمْرِهِ. ثـَمَّةَ دائـِماً طَـلـَلٌ أوْ زَغاريدُ أو وَجَعٌ تحتَ العَمامَةِ مِمّا يَقيسُ بهِ المَسافَةَ نحْوَ التّقاعُدِ.
في الغُرفةِ نفْسها تقريباً ما أزالُ بـِدَوْرِيَ أقْتَفي أَثـَرَ الأَحِبّةِ في الغِناءِ الّذي يَسَعُ الأُسْطـُوانةَ والشّريطَ وقـُرْصَ آخرِ صَيْحةٍ وأرى المدينةَ كلـَّها أرْضاً تضيقُ بِما مَلَكـْتِ منَ الخُطى وبلاغةِ الأنفاسِ في آخرِ العمْرِ الطويلِ وتُـلـْغي الزّغاريدَ منْ أعْيادِها.
أَلآنَ شيءٌ ما يهُبُّ على المدينةِ سيّداً.
رُبّما عبَقُ النُّوارِ ذاكَ الذي تركْتِ وحيداً في أَكـُفِّ الذاهبينَ إلى المسَرّةِ إثـْرَكِ.
رُبّما ذاكَ الغزالُ ــ غزالـُكِ وحْدَهُ ــ عَبَرَ المدينَةَ بغْتةً واخْتفى بـِـبـَياضِهِ.
أوْ رُبّما بعْضٌ مِنْ صَداكِ يُردِّدُ في الفراغِ الّذي تَتْرُكين: أنا وغزاليَ في الجِبالِ نُقيمُ حفْلَ الوداعِ لوحْدِنا. لا شيءَ يُخْفي العَلامةَ بيْننا في الغيابِ عشِـقــْـتـُـكـُمْ ورُويتُ منْ شَغَفٍ ومنْ شَظفِ الأَحاسيسِ أطْربتُ ما يَكفي فقَطْ كي أكونَ وكيْ لا يطولَ الليلُ أكْـثـرَ.
محمد ميلود غرافي، تولوز/فرنسا 2006.