رؤى منطقية

السيميائيات المعرفية

يعد هذا المقال ترجمة للتمهيد الذي خصه الأستاذ كلاوديو بولوتشي Claudio Paolucci لكتابه "السيميائية المعرفية" (العلامة، الذهن، المعنى، المعرفة) Cognitive Semiotics. Intergrating Signs, Minds, Meaning and Cognition.  الذي هو في الأصل عبارة عن رسالة دكتوراه، أشرف عليها الأستاذ أمبرتو إيكو، وقد صدر عن دار Springer للنشر سنة 2021، والذي يعرف فيه الكاتب بالسيميائيات المعرفية والتداخل الذي تعرفه مع العلوم المعرفية المعاصرة:

ترجمة: وديع بكيطة (مترجم وباحث)

يتعلق هذا الكتاب بالسيميائيات المعرفية، وهو يلقي الضوء على بعض المشكلات والنقاشات المعاصرة في السيميائيات والفلسفة والعلوم المعرفية مثل الذاتية والتمثلات والمعتقدات والإدراك والخيال والمعرفة الاجتماعية والذهن واللغة. لا يجب أن ننظر إلى السيميائية المعرفية على أنها نوع خاص من السيميائيات بل باعتبارها محاولة للإجابة على السؤال التالي:” كيف يمكن أن نتعرف على العالم من خلال العلامات واللغات؟” لقد استوحيت في هذا الكتاب أفكار أمبرتو إيكو حول السيميائية، الذي حدد بوضوح كبير المشكلة المعرفية المتمثلة في سؤال “كيف نتعرف على العالم؟”، والذي استحوذ عليه من خلال مجمل نشاطه العلمي.

يقول أمبرتو إيكو: لقد قمت في جميع أعمالي بمحاولة الإجابة على سؤال كيف نتعرف على العالم. وهذا ربما ما يفسر اهتمامي الكبير بعوالم السرد: الذي يشكل بديلا عن العالم. (Eco 2004: 199).

لا أريد أن أكون ناقدا أو مراجعا لنفسي، ما أفكر فيه هي رواياتي: رواية “اسم الوردة” هي حقيقة يجب كشفها. يناقش “بندول فوكو” كيفية بناء عالم غير موجود. وتناقش رواية “جزيرة اليوم السابق” عالما موجود، لكن حدوده لا تزال غير واضحة.

يتعلق عملي في السميائيات في الأخير؛ بإشكال كيف تفسر العلامات ما هو موجود وتبني ما هو غير موجود؛ أي تفكيك الظواهر وإعادة بناء رؤيتنا للعالم.

وتتعلق كذلك السنوات التي قضيتها في تحليل وسائل الإعلام بإشكال الحقيقة. (Eco 2001: 616–7).

يرى إيكو أن “السميائيات المعرفية” هي جوهر السيميائيات، وليست نوعا منها، وقد قام بالعمل على هذا الجوهر في مختلف أعماله. فإذا دلت كلمة “معرفة” على سؤال “كيف نتعرف على العالم”. فإن العلامات والمعاني والنصوص واللغات “تعرفنا على الوجود” أو “تعرفنا على كيف نبني ما هو غير موجود”، من ثم فإن السميائية المعرفية هي الطريقة التي تمثل بها الأنظمة السيميائية مرجعية تصورنا للعالم وتحدد الشروط التي تسمح بالإدراك والمعرفة. وهذا ما شغل كل اهتمام أمبرتو إيكو.

تتبنى السيميائيات هذا الخيار الكلاسيكي في مجملها، قبل كل شيء؛ عندما قال سوسير وهيلمسليف وغريماس إن المعنى لا يمكن تحديده بناء على بنية المرجع أو خارج عالم اللغة، لأن الإشكال لم يكن يتعلق بتبين العلاقة بين العالم واللغات أو التشكيك في دلالتها داخل ثقافة معينة. بالمقابل، يكمن الإشكال في التركيز على الطرق التي يمكن أن توفر بها اللغات دعامة للإدراك البشري، وتوجيه وجهات نظرنا وتوسيع وتعزيز إمكانياتنا المعرفية وقدرتنا على معرفة العالم. قدم بيرس حجة مماثلة عندما قال: ” إن أفكار أي كاتب حي الموجودة في أعماله المنشورة هي غير تلك التي في عقله” (CP 7.365). وقد كان بيرس في جدال مفتوح مع علماء الدماغ في عصره والذين حاولوا تحديد الوظائف المعرفية داخل مناطق الدماغ، اقترح بيرس بدلا من ذلك وبعيدا عن علم التشريح خيار السيميائيات المعرفية، والذي يمثل سابقة فلسفية حقيقية لأطروحة العقل الممتد (cf. Paolucci 2011; Iliopoulos 2019): إن دراسة النصوص واللغات التي تشكل الفكر والتعبير هي في الآن ذاته دراسة للإدراك والأسلوب الذي نفكر به بطريقة دقيقة وجدية.

لهذا السبب، في رأيي، تتعامل السيميائيات المعرفية التي يمكن من خلالها للتفكير سميو-لغوي في العلامات والمعنى واللغة أن يلقي الضوء على كل الطرق التي نصل بها إلى فهم العالم من خلال الإدراك والفعل، وقدرتنا على فهم تجربتنا. لذلك، تلتزم السيميائيات المعرفية بالمشاركة في النقاشات المعاصرة المتعلقة بالإدراك، لأن العديد من علماء الإدراك في الوقت الحاضر يواجهون إشكالات سيميائية متكررة ويتعاملون مع إشكالات سيميائية تحت اسم أو عنوان مختلف.

في رأيي، من أجل فعل ذلك، يجب تقديم السيميائيات المعرفية باعتبارها اقتراحا نظريا قويا، قادرا على اتخاذ موقف جانبي في النقاش الحالي حول الإدراك وتحديد نقطة مرجعية لكل الباحثين في السيميائيات والمهتمين بالعلوم المعرفية وعلماء الإدراك، بحثا عن معرفة صحيحة ودقيقة عن العلامات والمعنى واللغة والإدراك.

يقدم هذا الكتاب في فصله الأول الإطار النظري للسيميائيات المعرفية. كما يجب النظر إلى السيميائيات المعرفية على أنها “نظرية الكذب” التي تحافظ على النشاط الحسي الراديكالي والبراغماتية ونظرية الارتباط المادي.

أعالج في الفصل الثاني مشكلة الفلسفة الكلاسيكية، مشكلة الذاتية، وأحاول أن أوضح كيف يمكن طرح هذه المشكلة وحلها بشكل أفضل من خلال النظرية السيميائية للتعبير غير الشخصي والتي تتعامل مع الذاتية في اللغة.

وقد لخصت في الفصل الثالث ملامح “العقل السيميائي”، بدءا من تأويل سيميائية بيرس؛ بناء على إطار إدراكي قائم على العلامات واللغات، حيث تعاملت مع ثلاثة مفاهيم أساسية في صميم النقاش المعاصر: العادات والمعتقدات والتمثيلات.

خصصت الفصل الرابع لمشكلة الإدراك الاجتماعي، والذي يركز على السيميائيات السردية والتي تشرح مدى قدرتنا على إسناد المعنى إلى أفعال الآخرين وعلى الفهم، من خلال تحليل التفاعل السيميائي؛ ضعف الإدراك الاجتماعي: مثل اضطرابات طيف التوحد عند الرضع.

يتناول الفصل الخامس نظرية الإدراك التي يتم تصورها على أنها “هلوسة مسيطر عليها” أو “تصور محكوم”. بدءا من سيميائية الإدراك التي حددها أمبرتو إيكو وكانط وفلاتبيوس Platypus. وسأتعامل مع المعالجة التنبؤية لآندي كلارك  Andy Clark وسأربطها برواية “غوته Goethean” لـ جان كوندرينك  Jan Koenderink، مع التركيز على الدور الرئيسي للخيال في الإدراك.

من وجهة نظري، تفسر السيميائيات المعرفية الإدراك على أنه (أولا): شكل نشط من صنع المعنى، يتضمن التفاعل مع العالم الخارجي. (ثانيا): شكل من أشكال الفعل يتوسطه المعنى، حيث لا تكون المعاني تمثيلات للعالم أو لشروط الحقيقة، ولكن باعتبارها عادات تأويلية وأنشطة تكوين المعنى. (ثالثا): منظور لا تمثل فيه النصوص واللغات والأنظمة السيميائية تعبيرا عن فكرة موجودة مسبقا وحاضرة في أذهننا، ولكنها تشكل بنية للأسلوب الذي نفكر به ونعرف به الواقع، أو كمقالات معرفية تمثل مرجع تصورنا عن العالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ كلاوديو بولوتشي Claudio Paolucc: أستاذ مشارك في السيميائيات والفلسفة ونظرية اللغة بقسم الفلسفة والتواصل بجامعة بولونيا، يقوم بدور منسق لبرنامج الدكتوراه في الفلسفة والعلوم والإدراك والسيميائيات. تخرج وعمل لسنوات مع أمبرتو إيكو Umberto Eco، الذي كان مشرفا على أطروحته للدكتوراه. وهو الآن المنسق العلمي للمركز الدولي للعلوم الإنسانية: “أمبرتو إيكو” (جامعة بولونيا)، وأستاذ زائر للعديد من الجامعات الدولية، نشر لحدود الآن أربعة كتب، وأكثر من 90 مقالا علميا بالمجلات الدولية والعلمية، والتي هو أحد لجانها العلمية. أشرف على مجموعة من مراكز المنح العلمية والدولية، وهو الآن عضو رئيس في المشروع الأوروبي “NeMo”، والذي هو اختصار لـ”مركز السيميائيات لدراسة التفاعلات المتجسدة بين الأطفال الرضع ومقدمي الرعاية” (رقم المنحة: 2019-1-IT02-KA201-063340).

هذا رابط إحدى الندوات الخاصة به حول “السيميائية المعرفية”:

Claudio Paolucci – Cognitive Semiotics, Sense-Making and Enactivism


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock