السهم والوتر ـ جديد صلاح بوسريف
الشِّعر بالمُغايرة والاختلاف
يمكن، في سياق هذا الكتاب النظري أو التنظيري، للشاعر صلاح بوسريف، أن نعود لمجموع أعماله النظرية السابقة، وعلى رأسها كتاب «حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر»، الذي كان الأطروحة المركزية، لما ذهب إليه من تصوُّر للكتابة، أو لمفهوم العمل الشِّعري.
السهم والوتر، بيانات، فيها يعمل صلاح بوسريف على بناء التصورات والمفاهيم الشعرية التي يقتضيها مفهوم الكتابة، في تجافٍ واضح مع «القصيدة»، المفهوم الذي نستعمله، دون مُساءلته، ودون استعادة المعنى والبناء، كما تأصَّل فيهما، أو هما ما قامت «القصيدة» عليه، باعتبارها تشطيراً، وتوازياً، وصدراً يقابله العجز، وهذا هو المعنى المفهومي الذي جاءت منه، إضافة إلى مفاهيم مثل «البيت» و «القافية» وغيرها من المفاهيم التي تعود إلى ماضي الثقافة العربية، في ما حاضرها وحديثها، مغاير ومختلف في الرؤية والتصور، معاً. هل معنى هذا أننا، بطبعنا، نميل إلى المحافظة في التحديث، أو أننا لا نقبل بتسميات تليق بزمننا، واكتفينا بالأسلاف، حتى نحن ندعي تجاوزهم!؟
في هذا الكتاب، مفاهيم الشِّعر تخضع للمساءلة والتفكيك والاختبار، كما يسعى الكتاب إلى تكريس مفهوم الكتابة أو حداثة الكتابة، على اعتبار أن الشعر، هو مفهوم لا علاقة له بـ «القصيدة»، التي اعتبرناها هي الشِّعر، في ما «القصيدة»، هي نوع شعري، والشِّعر هو جامع أنواع.
خلخلة، هي تعبير عن رغبة في الخروج بمفهوم الحداثة من اختناقاته، خصوصاً أن الشفاهة والصوت، ما زالا، هما ما يحكم البنية الأم للشعرية العربية المعاصرة، الخطاب الغنائي المنبري، كما نجد في أعمال تميل إلى الكتابة وتوظيف الصفحة كدال شعري، مثل «الكتاب أمس المكان الآن» الذي بقي الصوت فيه مهيمناً، قياساً بالرموز والعلامات التي تتظافر مع التعبير اللغوي، وكذلك الفراغات والبياضات، وشكل توزيع الجمل والصور والمقاطع من صفحة إلى أخرى. ليس هذا المهم، بل المهم هو كيف تعمل الكتابة على وضع الصوت كمكون، مثل التفعيلة، وليس هو ما يحكم بناء الخطاب، الذي لم يرق إلى مستوى النص. مفهومان، أيضاً، يعيد السهم والوتر مراجعتهما، والكشف عن التصاق الخطاب بالشفاهة، لأنه جاء من الخطبة والكلام المباشر، أو ما يمكن اعتباره مع ميرلو بونتي بـ «كلام الله»، لأن الله تكلم، ولم يكتب. أما مفهوم النص، فهو آتٍ من النسج والعمل الذي تتدخل فيه الحياكة بالأصابع، مثل أصابع إرَتْشَنْ، في الأسطورة، التي تُجيد الحياكة بسحر بأصابعها التي مصدر إبداعيتها.
الكتاب، يُثير قضايا، على القاريء أن يتأملها، أو يُحاورها، من داخل الشعر، ذاته، ماضيه وحاضره، وبحجة النصوص الشعرية نفسها، وليس بالتشبث بالمفاهيم التي أصبحت عندنا ثوابت، لا تقبل التغيير، لأننا استعملناها، في غفلة منا، دون تفكيكها ومراجعتها ونقدها. ومن هنا يأتي معنى السهم والوتر، أي إعمال الأصابع في التسديد، من خلال دوال جديدة، أهمها الكتابة التي هي الأفق الشعري الجديد الذي يقترحه الشاعر صلاح بوسريف في عدد من أعماله النظرية والشعرية، التي تقوم على مبدأي المغايرة والاختلاف.
كلمة الغلاف
حَدَاثَةُ الكِتَابَةِ، كَمَا أذْهَبُ إِلَيْهَا، هُنَا، في هذه البَيَاناتِ، هِيَ الشِّعْرُ فِي هذا الامْتِدَادِ الواسِع، فِي هذهِ الزُّرْقَةِ اللَّانِهَائِيَةِ، وهِي، في جَوْهَرِهَا، هَذِهِ الاسْتِعارَةُ الكَوْنِيَةُ الكُبْرَى، وَهِي تُنْصِتُ لِكَيْنُونَةِ الإنْسَانِ، ولِقَلَقِهِ الوُجُودِيّ، وَما اعْتَراهُ مِنْ حُمَّى الكِتَابَةِ ورَعَشَاتِهَا. فَهِيَ بِقَدْرِ ما تَعُودُ إلى البِدَايَاتِ، بتَعْبِير نِيتْشَه، فَهِيَ تَسْتَنْفِرُ اللُّغَةَ، فِي كُلِّيَتِها، اللُّغَة دُونَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ ما يَقْبَلَهُ الشِّعْرُ ومَا يَنْفُرُ مِنْهُ، أو بَيْنَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَثْراً، ومَا يَصْلُحُ أَنْ يَكونَ شِعْراً. أعْنِي اللُّغَة وَهِي تَبْتَنِي شِعْرِيَتَها فِي النَّصِّ وبالنَّصّ، ولَيْسَ خَارِجَهُ، وهِي شِعْرِيَةٌ، لا يُمْكِنُ فَصْلُها عَنِ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ، وعَنِ اليَدِ الَّتِي تَكْتُب. شِعْرِيَةٌ تَحْدُثُ إِبَّانَ الكِتَابَةِ، لا هِيَ قَبْل، ولا هِيَ بَعْدُ. افْتِراضُ اللُّغَةِ في حَداثَةِ الكِتَابَةِ، باعْتِبارِهَا قَبْلاً، هُو إفْراغٌ للنَّصِّ مِنْ إيقاعَاتِهِ، ومن أخِيلَتِهِ، أيْ مِنْ أهَمِّ دَوالِّهِ البَانِيَة لِنَصّهِ، الَّذِي يَتَنافَى، هُنَا، مع الخِطَابِ كَمَفْهُومٍ شَفَاهِيّ، يُشِيرُ إلى الصَّوْتِ، لا إلَى الصَّفْحَةِ الَّتِي فِيها يَتِمّ نَسْجُ النَّصِّ، وكِتَابَتُهُ، أَيْ بِنَاؤُهُ، بِكُل ما يَتَقَاطَعُ فِيهِ مِنْ دَوَالّ، الصَّوْتُ فِيها، هَوَ أحَدُ بَقَايَا الوَزْنِ، أو مَا يَدُلُّ عَلَى مَاضِي اللِّسَانِ، حِينَ كَانَ هُومِير يَرْوِي شِعْرَهُ، باعْتِبارِهِ سَرْدِيَةً، تَنْتَقِلُ مِن اللِّسان إلى الأُذُنِ.