الخطاب الملكي ينتصر للمطالب النسائية
تميز خطاب العرش لهذه السنة (2022) بتثمين المكاسب التي حققها المغرب، سواء على المستوى الاجتماعي أو الحقوقي أو الاقتصادي أو على مستوى الوحدة الوطنية والترابية. وقد أولى جلالته أهمية قصوى للمسألة النسائية التي خصص لها حيزا وافرا (386 كلمة من أصل 1234، أي حوالي 31 %) اعتبارا لكونها مفتاح التقدم والكرامة. لأجل هذا شدد جلالته على إزالة العراقيل المادية وفي مقدمتها التشريعات وعدد من بنود مدونة الأسرة التي أثبت التجربة أنها أصبحت متجاوزة ومتعارضة مع الدستور الذي ينص على المساواة والمناصفة، أو الفكرية المرتبطة بعقلية عدد من القضاة وثقافتهم التي لم تتحرر من تأثير قيم الذكورة. لهذا دعا جلالته (لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها).
وهذه إشارة واضحة من جلالته لتجاوبه مع المطالب النسائية بتحيين التشريعات الوطنية ومواءمتها مع الدستور ومع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب (وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها). وأولى العوائق التي تواجهها مدونة الأسرة، كما قال جلالته (عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء).
إذن مسألة إخضاع مدونة الأسرة للتعديل والتطبيق الصحيح لم تعد اختيارا، بل صارت ضرورة (لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية. كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها). إن موقف جلالته المساند للمطالب النسائية بضرورة مراجعة المدونة وتعديل المتجاوز من بنودها سيحرر الحكومة، وخاصة وزارة العدل من الضغوط التي يمارسها التيار الإسلامي الذي أفرغ كثيرا من بنود المدونة من محتواه كما التف على بنود أخرى خاصة المتعلقة بهيئة المناصفة التي لم تر النور إلى اليوم.
وقد فتح جلالته مجالات الاجتهاد لتشمل مقاصد الشريعة، أي روح النصوص الدينية، ثم خصوصية المجتمع المغربي الذي تميزت عبر التاريخ بمشاركة النساء في الحياة العامة وتنمية الأسرة والمجتمع بعيدا عن عقائد التشدد التي تقصي النساء من أية مشاركة أو تحصرها، في أحسن الأحوال، في مجالات هامشية. فضلا عن اعتماد منهج الاعتدال والوسطية التي طبعت الإسلام المغربي وحصّنته من الغلو والتشدد (ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية).
إن هذه المجالات التي شدد جلالته على مراعاتها والاهتداء بها حين الاجتهاد ومراجعة بنود مدونة الأسرة، تعد منارات تهدي من سيتولون المهمة.
وأهم عنصر حرص جلالته على الالتزام به من طرف الجهة التي ستتولى الإشراف على المراجعة هو (إشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية). ومعنى هذا ضرورة مراعاة إشراك الهيئات المدنية والحقوقية والنسائية المهتمة بقضية المرأة والطفل إلى جانب ذوي الاختصاص في كل ما يهم المرأة والطفل والأسرة.
إن تركيز الخطاب الملكي على ضرورة مراجعة المدونة وإقرار حقوق النساء نابع من قناعة جلالته (أن تقدم المغرب يبقى رهينا بمكانة المرأة، وبمشاركتها الفاعلة، في مختلف مجالات التنمية). فالخطاب الملكي، بتركيزه على ضرورة تمتيع النساء بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال، إنما جاء لينتصر لمطالب الحركة النسائية بوجوب مراجعة مدونة الأسرة وتجاوز القصور والاختلالات، سواء على مستوى عدد من بنودها أو على مستوى التطبيق الذي ينحرف، في كثير من الحالات، عن الأهداف التي وُضعت من أجلها المدونة.
لهذه الغاية ينتظر جلالته، كما الحركة النسائية، أن يكون التغيير جذريا يمس المدونة في جوهرها حتى تكون متوائمة مع الدستور ومنسجمة مع المواثيق الدولية ومراعية للمصلحة الفضلى للطفل. أما الميزة الثانية التي تميز بها الخطاب الملكي فهي التفاعل الإيجابي مع مطالب المواطنين بضرورة حماية المستهلكين من ارتفاع الأسعار وتغولها بسبب الاحتكار، خصوصا تواطؤ الحكومة السابقة والحالية مع شركات توزيع المحروقات على توسيع هامش الأرباح على حساب قوت المواطنين وأرزاقهم. ومعلوم أن السيد والي بنك المغرب سبق واتهم حكومة البيجيدي بالتواطؤ مع شركات المحروقات على نهب جيوب المواطنين.
وبسبب ضعف الحكومة أمام هذه الشركات، وتصاعد أصوات المواطنات والمواطنين المطالبة بتخفيض الأسعار دون أدنى استجابة من طرف الحكومة، جاء الخطاب الملكي منتصرا لمشروعية هذه المطالب ومشددا على ضرورة التصدي بحزم لكل المضاربين والمحتكرين (ندعو لتعزيز آليات التضامن الوطني، والتصدي بكل حزم ومسؤولية، للمضاربات والتلاعب بالأسعار).
ليس عرضا أن يشدد خطاب العرش لهذه السنة على المدخلين الأساسيين لتقدم وتنمية البلاد.
المدخل الأول: ويتعلق بمراجعة مدونة الأسرة ضمانا لحقوق النساء وتكريسا لها في كل المجالات. فلا تقدم ولا تنمية إلا برفع كل أشكال العنف والتمييز ضد النساء وإقرار المساواة والمناصفة.
المدخل الثاني: ويتعلق بالنهوض بالاستثمارات وتشجيعها عبر محاربة الاحتكار والتصدي لطغيان المصلحة الخاصة (لأن أخطر ما يواجه تنمية البلاد، والنهوض بالاستثمارات، هي العراقيل المقصودة، التي يهدف أصحابها لتحقيق أرباح شخصية، وخدمة مصالحهم الخاصة. وهو ما يجب محاربته).
نحن، إذن، أمام خارطة طريق واضحة ومتكاملة لإطلاق دينامية التنمية وبناء مجتمع المساواة والكرامة والحقوق والمناصفة من أجل إدماج كل بناته وأبنائه في جهود التنمية والابتكار. فرغم الجهود التي قامت وتقوم بها الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية التي أثبتت أهميتها في مواجهة وباء كوفيد 19 (الدعم المادي للأسر الفقيرة، مجانية التلقيح، تعميم الحماية الاجتماعية حيث “بلغ عدد المنخرطين في نظام التأمين الإجباري عن المرض، أكثر من ستة ملايين من العاملين غير الأجراء وعائلاتهم”، دعم المقاولات المتضررة). أو الجفاف والحرب الروسية الأوكرانية (إطلاق برنامج وطني للتخفيف من آثار الجفاف على الفلاحين، وعلى ساكنة العالم القروي، لتخصيص اعتمادات مهمة، لدعم ثمن بعض المواد الأساسية وتوفيرها بالأسواق)؛ رغم كل هذه الجهود المبذولة، فإن التنمية والتقدم لن يتحققا، كما جاء في الخطاب الملكي، إلا بإقرار المساواة والمناصفة من جهة، ومن أخرى بالتصدي الحازم للاحتكار والتلاعب بالأسعار، ثم تشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية.
ليس أمام الحكومة، إذن، سوى العمل الجاد على تفعيل هذه التوجهات الكبرى لإعطاء ديناميكية قوية للاقتصاد المغربي عبر إزاحة العراقيل وتبسيط المساطر أمام الرأسمال الأجنبي الذي يبحث عن بيئة تتميز بالاستقرار السياسي، والمغرب يشكل هذه البيئة بامتياز؛ ثم إلغاء كافة أشكال التمييز والعنف ضد النساء عبر تعديل مدونة الأسرة بما يتوافق مع الدستور ومنظومة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.