مدارات

الخبرة الجينية والحديث النبوي”الولد للفراش”

أهمية القوانين ودورها يكمنان في تنظيم الحياة الاجتماعية بالحفاظ على تماسك الأسر واستقرار المجتمع وذلك من خلال تحقيق العدالة والمساواة. لهذا، فالقانون ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو أداة لضمان الحقوق وحماية الحريات والحفاظ على الأمن والاستقرار. ولا تتحقق هذه الأهداف إلا إذا عمل القانون على إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي يواجهها الأفراد داخل المجتمع. أي لا يكون القانون أصل المشاكل وعائقا أمام حلها.

فالمواطنون يلجأون إلى القانون من أجل حماية حقوقهم من الاعتداء والخرق، أو استردادها إذا تعرضت للإجحاف أو المصادرة؛ وكما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير “لا تدب الحياة في القانون إلا عندما تختل الأمور”. ففي الحالات العادية لا يحتاج الفرد إلى القانون. لكن الملاحظ من قانون الأسرة، أنه، ورغم المكاسب المهمة التي جاء بها، لا زال بحاجة إلى مراجعة جذرية لعدد من فصوله حتى تتم ملاءمتها مع بنود الدستور والتزامات المغرب الدولية.

ذلك أن مدونة الأسرة حافظت على بنود مستمدة من اجتهادات فقهية قديمة أملتها سياقاتها الاجتماعية والمعرفية والتاريخية، والتي لم تعد تساير تطور المجتمع وحركيته أو تتناسب مع المكتسبات الحضارية والعلمية. فقانون الأسرة، فيما يتعلق بعدد من القضايا منها: أهلية المرأة، إثبات النسب، نجده يكرس الظلم واللامساوة ويخالف الهدف الذي وُجد من أجله وهو تحقيق العدالة والحفاظ على تماسك الأسرة واستقرار المجتمع.

وهذه بعض الأمثلة على اللامساواة والتمييز على أساس النوع:

المادة 146: تحمّل الأم وحدها كامل المسؤولية والتبعات عند الإنجاب، خاصة خارج إطار الزواج (تستوي البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية).

المادة 148: تعفي الأب البيولوجي من كل مسؤولية وكأن عملية الحمل والإنجاب عملية ذاتية تقوم بها الأنثى دون اتصال جنسي بالذكر (لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية).

وتترتب عن هاتين المادتين مآسي اجتماعية ونفسية خطيرة بسبب الظلم القانوني والاجتماعي الذي تتعرض إليه الأم العازبة، التي هي في الغالب ضحية التغرير. وما يزيد وضعية الأم خطورة وظلما هو قانون تجريم الإجهاض الذي تكون هي وحدها ضحيته. مما يضطر هؤلاء الأمهات اللائي قادتهن ظروفهن إلى الحمل والإنجاب، وبعد أن يرفض الآباء البيولوجيون تحمل مسؤوليتهم في الإقرار بالأبوة بحماية قانونية صريحة، بل وبتشجيع قانوني صرف على التنصل من المسؤولية، تلجأ الأمهات إلى رمي الأطفال في الأزقة وحاويات الأزبال، أو تعريض حياتهن للخطر بسبب اللجوء إلى الإجهاض السري غير الآمن.

إذن، هذا القانون لم يأت ليعالج المشاكل ويجد لها حلولا، بقدر ما زادها تعقيدا وخطورة على الإناث وعلى الأطفال ثم المجتمع الذي تعج شوارعه وأزقته بعشرات الآلاف من الأطفال المتخلى عنهم (تتوقع “الجمعية المغربية لليتيم” أن يصل في أفق 2030 عدد المُتخلّى عنهم “إلى 86 ألفا و400 طفل متخلى عنه لا يتعدى 10 سنوات، و155 ألفا و520 طفل متخلى عنه لا يتعدى 18 سنة.”)

المادة 153: تجسد التنافر بين الفقه التقليدي الذي أنتجته بيئة اجتماعية بسيطة وليس له من وسيلة لإثبات النسب غير قاعدة “الولد للفراش”، وبين واقع اجتماعي له ما يكفي من المعرفة العلمية والتقنية للتثبت من نسب الأطفال كالتالي (يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية. يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، لا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة تفيد القطع، بشرطين: إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه؛ صدور أمر قضائي بهذه الخبرة). فالخبرة الجينية وسيلة علمية تحسم أمر النسب، بينما اللعان يزيد الوضع تعقيدا ويعفي الأب البيولوجي من كل مسؤولية.

المادة 156: مادة متقدمة تتجاوز الفقه التقليدي الجامد الذي يعتمد قاعدة “الولد للفراش” وذلك بإلحاق الابن بأبيه البيولوجي خلال فترة الخطوبة (إذا تمت الخطوبة، وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة، ينسب للخاطب للشبهة إذا توافرت الشروط التالية:

أ –إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما، ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء؛

ب –إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة؛

ج –إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما.

تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.

إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب). والمطلوب هنا هو جعل هذه المادة تُلحق كل الأطفال خارج إطار الزواج بآبائهم البيولوجيين حماية لهم من التشرد.

المادة 158: التي تسمح للآباء بالاستعانة بالخبرة الجينية ADN لنفي النسب عن الأطفال، أي إثبات الخيانة الزوجية في توافق مع المادة 493 من القانون الجنائي، بينما تُحرم النساء من اللجوء إليها لإلحاق الأبناء بالآباء البيولوجيين: (يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع، وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية). وما دامت الخبرة الجينية هي الفيصل في إثبات النسب أو نفيه، فإن المطلوب إعمال مبدأ المساواة الذي ينص عليه الدستور، وذلك بتمكين المرأة من اللجوء إليها واستصدار حكم قضائي بإثبات النسب للمولود خارج إطار الزواج تحقيقا للمصلحة الفضلى للطفل.

المادة 400 تتناقض مع الدستور الذي ينص على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية من حيث كونها تحيل على المذهب المالكي فيما لم يرد فيه نص بالمدونة دون تلك الاتفاقيات التي صادق عليها المغرب (كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف).

لا مناص إذن، من تعديل مدونة الأسرة ومواءمة بنودها مع نصوص الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock