الحكمة المغربية في مواجهة خصوم وحدتنا الترابية
يحتفل الشعب المغربي بذكرى المسيرة الخضراء في أجواء تتميز بتحقيق مكاسب دبلوماسية مهمة لوحدتنا الترابية. فافتتاح 16 قنصلية للدول الصديقة والشقيقة حتى الآن بمدينة العيون هو جهد مشكور للدبلوماسية المغربية وتفاعل إيجابي من قادة تلك الدول يستحق منا كمغاربة جميعا التحية والتنويه. ذلك أن فتح القنصليات الدولية بمدينة العيون لا يقل أهمية ورمزية من مشاركة ممثلي الدول إلى جانب 350 ألف مغربية ومغربي في المسيرة الخضراء عام 1975. فالشعب المغربي معتز بتلك المشاركة ومتطلع إلى مزيد من إقبال الدول على فتح قنصلياتها بالعيون عاصمة الصحراء المغربية. نجاح دبلوماسيتنا هو ثمرة جهود كل من الدبلوماسية الرسمية والموازية وكذا السياسة المعتمدة في تدبير الملف والتي تتميز بميزتين أساسيتين:
أولاهما: جهود التنمية المتواصلة والمبذولة في الأقاليم الصحراوية المسترجعة، والتي لا ينكرها إلا عنيد ومكابر. فرغم تكاليف الدفاع عن وحدتنا الترابية الباهضة، فإن المجهود التنموي بالأقاليم لم يتوقف أو يتباطأ منذ تحريرها.
ثانيتهما: الحكمة السياسية التي تراهن على عامل الزمن كعنصر فعال في تفكيك الجبهة المناهضة لوحدتنا الترابية والداعمة عسكريا وماليا ودبلوماسيا للعناصر الانفصالية. فالزمن كان كفيلا بتحقيق هذا الهدف بدءا من تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين الذي أخرج ألمانيا “الشرقية” من الحلف المعادي لوحدتنا الترابية وانتهاء بجماهيرية القذافي التي تعتبر المورّد الرئيسي للسلاح لفائدة البوليساريو حتى بعد تأسيس “لاتحاد العربي الإفريقي” الذي سرعان ما انهار بسبب استمرار مناورات الراحل القذافي. هكذا فقدت جبهة البوليساريو أكبر داعميها ومموليها، بينما استمر المغرب في تحقيق المكاسب التنموية والدبلوماسية والعسكرية. مكاسب لم تزد قادة الجزائر إلا حقدا وعداء للمغرب، وهي التي راهنت ، منذ البداية على تأزيمه اقتصاديا وعسكريا عبر فرض حرب استنزاف تمتص مالية المغرب وتثقل كاهله بالديون الخارجية لتغطية تكاليف السلاح والحرب على حساب التنمية والخدمات الاجتماعية. فالجزائر فعلت المستحيل لتفجير الأوضاع الاجتماعية الداخلية للمغرب (تهجير المغاربة المقيمين بالجزائر، فرض الحرب على المغرب، فرض السباق نحو التسلح…)، معتقدة أن بلدا لا يتوفر على البترول لا يمكنه تحمل تكاليف الحرب إلى أبعد مدى. لهذا راهنت على عاملين اثنين:
عامل الانفجار الداخلي أو “ثورة الجياع”. لهذا طردت المغاربة المقيمين بالجزائر ليزيدوا بأعدادهم من أعباء المغرب لتوفير السكن والشغل والتعليم والتطبيب إلى جانب حاجيات بقية أفراد الشعب .وكلما اشتدت الأزمة الاجتماعية زادت احتمالات الانفجار الداخلي. رهان خسرته الجزائر، لأن المغاربة يدركون أهداف الجزائر ومناوراتها وهم الذين ظلوا يتابعون الظروف الاجتماعية للشعب الجزائري بكل تفاصيلها، ولن ينسوا سنة 1985 كيف تداولت صحافة الجزائر صورة لحمار في المغرب يأكل الدلاح (البطيخ الأحمر) الذي لا يستطيعه المواطن الجزائري العادي . كما عملت الجزائر على دعم العناصر الإرهابية بالمال والسلاح والمخططات لإثارة الفتنة وزعزعة استقرار المغرب . في هذا السياق، سبق للسيد حكيمي بلقاسم الذي تم اعتقاله أثناء عودته محملا بالسلاح في العاشر من شهر يوليوز 1985، ضمن خلية إرهابية، أن أقر، في برنامج: “زيارة خاصة” بثته قناة الجزيرة في 27/11/2005 بالتالي: “انطلقنا من مدينة وجدة مع مجموعة من الشباب إلى الجزائر ومن الجزائر حُمِلنا في سيارات خاصة بجبهة البوليساريو إلى منطقة نائية قيل لنا بأنها تندوف… تدربنا في الصحراء في إطار سري للغاية تدربنا على التفجيرات، تدربنا على تسديد الطلقات على مختلف الأسلحة، تدربنا على الكلاشينكوف، تدربنا على الآر بي جيه، على السيطرة على متفجرات تي إن تي إلى آخره”. وجاء بعدها حادث أطلس أسني الإرهابي بمراكش في غشت سنة 1994 ليؤكد من جديد تورط الجزائر في دعم الإرهاب ضد المغرب.
عامل الحرب المباشرة والمواجهة المسلحة المفتوحة مع الجزائر وليس فقط مع البوليساريو. فالدعم العسكري الخارجي (من ليبيا، ألمانيا الشرقية، كوبا وبعض دول المعسكر الشرقي) والدعم المالي (بترول الجزائر وليبيا) أوْهَما الجزائر بتحقيق أطماعها التوسعية جنوب المغرب عبر استفزازه إلى الحد الذي يرد فيه بتطبيق “حق المطاردة” الذي كان الراحل الملك الحسن الثاني هدد بتطبيقه. مخطط أفشله المغرب بحكمة قيادته:
أولا، ببناء الجدار الرملي العازل على طول الحدود الجنوبية مع الجزائر لصد هجمات البوليساريو وتجهيزه بأحدث أجهزة المراقبة والاستشعار عن بعد والدفاع ما جعل محاولة الاقتراب منه مغامرة حقيقية من قبل الانفصاليين، ثم بتطوير ترسانته العسكرية كقوة رادعة تحسب لها الجزائر ألف حساب إن هي أقدمت على أي تهور عسكري.
ثانيا، بتحميل الأمم المتحدة كامل المسؤولية لفض النزاع وتثبيت وقف إطلاق النار ليفعل عامل الزمن فعله في تآكل جبهة البوليساريو (خصوصا لما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني “الوطن غفور رحيم” وتفكك مفاصلها وانفضاض داعميها من حولها. ولولا الحصار الذي تفرضه الجزائر على محتجزي مخيمات تندوف لعاد المواطنون إلى أرض الوطن ولم يتبق هناك سوى بعض عناصر قيادة البوليساريو. فالمغرب ليس مستعجلا في إنهاء الصراع مع الجزائر حول الصحراء بأي طريقة كانت، طالما العلم المغربي يرفرف في أجوائها والأمن يعم أرجاءها.
أمام فشل كل مخططات الجزائر لتفرض على المغرب أجندتها ، وتتحكم في مجرى ومصير الصراع، فإنها تلجأ إلى توظيف عصابة البوليساريو في الداخل لإحداث الفوضى (مخيم اكديم إزيك نموذجا )، أو في الخارج (المحاولات المتكررة لاحتلال المنطقة العازلة أو عرقلة المرور عبر معبر الكركرات) بغرض استفزاز المغرب لتكون له ردة فعل قوية تستغلها الجزائر ومعها منظمة أمنيستي التي باتت تعادي المغرب بشكل مفضوح، حتى يوافق مجلس الأمن على توسيع مهمة المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية المسترجعة. المؤامرة واضحة والحكمة التي أدار بها المغرب ملف الصحراء منذ شتنبر 1974 بطلب رأي محكمة العدل الدولية في لاهاي، لن تعوزه في إدارة ما تبقى من أشواط الملف ، خصوصا وأن الدعم الدولي لوحدتنا الترابية ثابت ويتعزز باستمرار عبر سحب عدد من الدول اعترافها بالبوليساريو. من هنا يمكن للمغرب الاستمرار في تحميل الأمم المتحدة ومجلس الأمن مسؤوليتهما في فرض احترام وقف إطلاق النار وسحب عصابة البوليساريو عناصرها من المعبر، وفي نفس الوقت استغلال النقل البحري لتأمين وصول السلع من وإلى موريتانيا وإنقاذ التجارة بين البلدين.
هكذا ظل المغرب يتصرف بكل حكمة ورزانة إزاء المخططات التخريبية للجزائر؛ فهو لم يعاملها بالمثل حين طردت المغاربة من أراضيها وفرقت وشتت شمل الأسر، ولا احتضن معارضي النظام الجزائر أو ساعد زعماء القبايل على تشكيل حكومة في المنفى بالمغرب ولا سلح أو درب الإرهابيين لاستهداف أمنها كما ظلت تفعل الجزائر. اختار المغرب أن يكون ويظل عامل استقرار في المنطقة، ولم يسع يوما إلى إثارة الفتن المذهبية أو الإثنية ، وإنما يعمل جاهدا على نزع فتيل الصراع والحروب بين الدول الإفريقية. عسى النظام الجزائري أن يستوعب حكمة المغرب فينكب على تنمية بلاده ويصرف ثرواتها على شعبه.