الاتفاق المغربي الإسرائيلي
إن للكلمة عندي مكانا كبيرا، وقيمة لا يستهان بها، ولهذا تجدني أحرص جهدي قبل التعبير بها عما يتلجلج في نفسي ويتخالج في قلبي، وتجدني، أيضا، لا أنقم على من يصف العرب بأنهم أمة كلام، فهذا الوصف فيه ما فيه من شرف للعرب ورفع لمكانتهم، من حيث أراد صاحب الوصف الحظ من قدرهم والغض من مكانتهم، وذلك أنه لولا الكلمة، لما كان للعلوم منزلتها ولما تبين الناس مرتبتها، ولما حظيت الأفكار بشرفها، فالنظرية العلمية هي في الأخير كلام يبين به صاحبه عما توصل إليه.
والرأي والتحليل، ليسا بدعا ولا استثناء، ولهذا لا يليق بالمرء التعبير عنهما، ونقلهما من صورهما ذهنية، إلى ألفاظهما الكلامية، حتى يذهب في تقليبهما كل مذهب، ولا يكتفي بالنظر في وقعهما حسب الزمن الزائل، بل يجب عليه النظر في وقعهما وفق الزمن الدائم، ومما قعد له علماء الإسلام في كتبهم، قاعدة: “اعتبار مآلات الأفعال”، وذلك مما استنبطوه من النصوص الشرعية، وهذا من كمال منهجهم ودقة بيانهم.
والنظر في وقع الرأي والتحليل حسب الزمن الدائم، وتقليبهما على جميع وجوههما، وتقصي كل معانيهما، يقتضي الوقت الطويل، ولهذا لا يحسن ولا يليق بصاحب الرأي التسرع في إبداء رأيه والإبانة عن تحليله واتخاذ موقفه، لكن أصبحنا نهتم بالسبق دون مراعاة الحق، حتى أنه أحيانا يتم الاكتفاء بالنقل، فتأت جميع الآراء على النحو نفسه، وهذا لا يكون تواطئا في الرأي، وذلك أنه لا يقوم غالبا على دليل عقلي صريح أو خبر صحيح، وإنما هو تواطؤ في نقل الرأي بعضهم عن بعض. لم يكد يعلن عن الاتفاق المغربي الإسرائيلي، العسكري والأمني، حتى جرت الأقلام، وسال المداد، وضرب بالأسود على الأبيض، وطارت من حولنا الآراء، وانطادت التحليلات، حتى خيل إلي أنها تملآ ما بين الأرض والسماء، وكلها لا تخرج عن رأي واحد، وهو في مجمل معناه، لا يزيد عن كون السبب الذي دفع المغرب إلى إنشاء هذا الاتفاق مع إسرائيل، والذي تم حول المجال الأمني والعسكري، إنما هو التحديات التي يطرحها الخلاف مع الجزائر، وأن المغرب إنما لجأ إلى إسرائيل ليستقوي بها على الجزائر. ويكفي هذا الكلام للحكم على صاحبه، أو أصحابه، أنهم خارج مجال الرأي الصحيح، ولهذا قلت أنه على كاتب الرأي والتحليل أن ينظر في الزمن الدائم، فينظر في السياق التاريخي والمكاني، ويجمع كل ما يمكنه جمعه، مما يتعلق بالمسألة التي يرغب في إعطاء الرأي فيها أو تحليل أحداثها، ثم بعد هذا يفرز سقيمها من صحيحها، وينظر في علل هذا وذاك، ثم يخرج علينا بما وصل إليه بعد هذا الطواف المضني، فيكون رأيه للتاريخ، وليس عبارة عن مقال عابر يزول مع زوال اللحظة ، فإن أخطا بعد كل هذا وجدنا له العذر وأحسنا به الظن، واعتبرنا مقاله من سقطات الصحف، وهذا الذي كشفت لك من منهج التقصي والبحث، هو مما لا يقدرون عليه، ولا يصبرون على الذهاب في تقصيه، بل إنهم لا يعلمون حتى بوجود هذا المنهج في الدراسة، ولكن منهم قلة قليلة علموا ولكنهم كتموا.
والآن، دعني أرجع بك إلى الاتفاق العسكري والأمني، وأكشف لك عن بعض جوانبه، مما ينتفي معها إدخال الجزائر في الموضوع، وسيتبين لك بعد هذا الذي سنكشفه أن إدراج اسمها في الموضوع ما هو إلا فضول من الكلام، تستفز به العواطف، وتثار به دفائن الإحن. مما أغفله المتكلمون، وأهمل ذكره الكتاب، هو أن المغرب هو الدولة الوحيدة، التي زارها وفد إسرائيلي مع بداية الصلح، وأن الصلح تم في المغرب، وليس في إسرائيل، ولهذا دلالات كثيرة، منها أن المغرب دولة قوية، وأن الدول تسعى للصلح معها وعقد الاتفاقيات، فدولة تسعى إسرائيل للصلح معها، لا تحتاج للاستقواء بإسرائيل على الجزائر، فتدبر.
كما أن الوفد كان فيه مستشار الأمن القومي لإسرائيل، والذي وقف أمام أمير المؤمنين خاضعا، يتمتم بدعاء يحمل من معاني البيعة ما يحمله، مما يدل على عراقة المملكة الشريفة وقوتها، وأنت يا صاحبي تعرف جيدا معاني الدعاء الذي ترنم به مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، فهو عبارة عن إعطاء للبيعة وإظهار للولاء، ولهذا حين تولى السلطان السعدي “أحمد الشيخ” عرش المغرب، أرسل إليه السلطان العثماني سليمان القانوني، يطلب منه أن يرفع الدعاء باسمه على المنابر يوم الجمعة، فتفطن أحمد الشيخ لما يحمله هذا الطلب من مقصد خبيث ونية دفينة، لأنه إذا رفع الدعاء في منابر المغرب للسلطان العثماني كان ذلك سقوطا للسيادة السعدية على الأراضي المغربية، ولكن أحمد الشيخ تفطن لذلك، ويقول أحد المؤرخين أنه، أي السلطان السعدي، قرأ الرسالة، وقف وقعد، وأبرق وأرعد، حتى ذعر الرسول العثماني، ويروي المؤرخ أن السلطان السعدي كتب إلى سليمان القانوني، أنه لن يرد عليه حتى يصبح في مصر. وقد ذكرت لك هذه القصة لتعلم مكانة الدعاء الذي وقف مستشار الأمن القومي الإسرائيلي يترنم به في خشوع بين يدي أمير المؤمنين، حتى يظهر لك جليا واضحا، وحتى لا تشتبه عليك الأقوال وتتيه وسط الأراء، أن المغرب دولة قوية لا تحتاج للاستقواء بأحد.
والجزائر، لو كانت تعرف من ذات نفسها، قدرتها على مجاراة المغرب عسكريا، لما توانت عن ذلك، ولكنها تعرف عجزها من ذات نفسها، فكثيرا ما حاولت جس النبض عبر الحدود، لكنها تدرك سريعا أنها أمام جيش قوي ودولة قوية، وما أحداث الكركارات عنا ببعيد، ولا أحب أن أخوض بك في أحداث الأمس القريب. وبعيدا عن الإطالة في الكلام وشقشقة البيان، فإن إسرائيل دولة متقدمة في الصناعة العسكرية، حتى أن الولايات المتحدة تسعى لشراء عتاد عسكري منها، ولذلك فلا يضر المغرب أن يسعى للاستفادة منه أيضا، فشراء الأسلحة منها، يرجع لجودته، وليس استقواء على الجزائر، وكيف يستقوي المغرب على دولة منهكة، بل لا تملك حتى طائرات لإطفاء الحريق؟؟؟ كما أن قوة المغرب ظهرت مؤخرا للعالم حين وقف لإسبانيا وألمانيا ومعهما دول الاتحاد الأوروبي. هذا، وإذا مددنا الكلام على استقامته، وفق ما يقتضيه قول القائل أن المغرب يستقوي بإسرائيل على المغرب، فإن لازم القول يقتضي، أن الجزائر تفعل الشيء نفسه، وتسير في النهج ذاته، وذلك أنها تأخذ أسلحتها من روسيا، وعلى تباين المواقف بين روسيا وأمريكية، واختلاف آرائهما، وتضارب مصالحهما، فإنها يتفقان على أمن و سلامة إسرائيل، وهكذا يصح لكل صاحب لسان أن يقول أن الجزائر تستقوي بحليف إسرائيل على المغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مغربي، باحث في العقائد، والمدارس الفكرية، والاستشراق.