الأخطاء القضائية وحق التعويض
يثير مفهوم الخطأ القضائي نقاشا كبيرا بين رجال القانون والباحثين في المجال القضائي، ومدى إمكانية المساءلة عن هذا الخطأ الذي يمس حقوق ومصالح المواطنين.
ويعتبر حق التعويض عن الخطأ القضائي الذي تتحمله الدولة، من أبرز الحقوق المستمدة من النهج الحقوقي الذي انخرطت فيه الدول الراقية الديمقراطية التي تنص دساتيرها على حق المساواة أمام القضاء بين الدولة والمواطنين، وأقرت بمسؤوليتها عن الأخطاء القضائية التي يرتكبها القضاة، لأن الديمقراطية لا تقبل المسؤولية بدون المحاسبة والعقاب ولا خلاف حول إقرار مسؤولية الدولة بنص دستوري، حيث يعتبر تطورا كبيرا في نظام مسؤولية الدولة عن خطأ الجهاز القضائي الذي يمثل اعترافا بحق المواطنين في الحصول على التعويض عن الأضرار التي أصابتهم بسب الأحكام غير العادلة التي ارتكبت فيها أخطاء سواء كانت أحكاما جنائية أم مدنية.
نظريا: لكل من تضرر من خطأ قضائي حق التعويض تتحمله الدولة
ومن الناحية النظرية، ينص الفصل 122 من الدستور على أنه: “يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة” لكن يجب التمييز بين الخطأ الوارد في النص الدستوري وترجمته بالفرنسية، وفي هذا الاتجاه يقول الدكتور محمد لكموش باحث في العلوم السياسية: “بالرجوع الى الفصل 122 من الدستور يتبين أن هناك فرق في صياغة الفصل بين النسختين العربية والفرنسية إذ في النسخة العربية نجدها تتحدث عن الخطأ القضائي وترجمته بالفرنسية هي (faute) وبين النسخة الفرنسية التي تتحدث عن الغلط وترجمته بالفرنسية هي (erreur) والمعتبر هي النسخة العربية و بالتالي فان هذه المسألة تطرح اشكالا على مستوى التعريف لكل من الغلط والخطأ.”
الغلط والخطأ وما بينهما
والغلط هو وضع الشيء في غير موضعه وعدم التمييز بين الشيء وأشباهه وانحراف عن الصواب. ولهذا، نقول مثلا، إن التاجر أنقص في وزن البضاعة نتيجة الغلط الذي وقع فيه، وفي هذه الحالة يمكن استدراك الغلط، أما الخطأ، فهو يعني الضلال والنسيان والحياد عن الصواب، إما بسبب نقص في الجهاز العقلي، أو في الذكاء أو الجهل، وفي بعض الأحيان يكون الخطأ عمديا، ولهذا فان الشخص الذي لا يتمتع بالذكاء والتبصر والحكمة لا يصلح أن يتقلد منصب القاضي الذي هو من أعظم وأنبل وأخطر المناصب على الإطلاق.
وما دام القاضي ينوب عن الملك الذي تصدر الأحكام باسمه وموكول اليه الحفاظ على حقوق ومصالح المواطنين، فإن المرشح لمنصب القاضي يجب أن يمر من عين الإبرة نظرا لخطورة المسؤولية العظمى التي يتحملها من خلال الفصل 117 من الدستور الذي ينص على أنه: “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي و تطبيق القانون” كما ينص الفصل 124 من نفس الدستور على أنه: “تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون.”
وعلى هذا الأساس، لا يجوز إسناد منصب القاضي لشخص لا تتوفر فيه صفات العلم والذكاء والنزاهة والاستقامة والأخلاق النبيلة واحترام الإرادة الملكية؛ ويجب أن تسند مسؤولية القضاء للأشخاص الذين تتوفر فيهم صفات النزاهة والعلم والخوف من تحمل المسؤولية حتى يكون القاضي في مستوى الأمانة وتوجهات وطموحات الملك الضامن لاستقلال القضاء؛ ولا بد من التسليم بخطورة الرسالة التي يتحملها القاضي وثقل الأمانة التي يؤديها للقيام بواجب تطبيق قيم العدل بين الناس تفرضان عليه أن يكون سليم العقل ومن أفضل الطلبة المتفوقين وأصفى المنابع التي تكفل للقضاء خيرة العناصر علما و ثقافة وأخلاقا و مسلكا وأكثرها استعدادا لتحمل مسؤولية وأمانة العدالة التي يقول الله تعالى عنها: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.”
أخطاء قضائية لا تخفى على المجلس الأعلى للسلطة القضائية
وعلى اعتبار أن الأخطاء القضائية لا تخفى على المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي بإمكانه تطبيق قاعدة “من أين لك هذا” على جميع القضاة واكتشاف نواياهم الحقيقية وطريقة تفكيرهم، ويبقى لرئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يتلقى باستمرار شكايات وتظلمات المواطنين بشأن الأحكام الخاطئة أن يبرز حضوره القوي كما أراد ذلك جلالة الملك من حيث محاربة الفساد وإجراء البحث في شأن شكاوي المواطنين وأخذها أو عدم أخذها بتعليل الأحكام التي قد تكون مخالفة للواقع وللقانون ولا يمكنه التخلي عن مباشرة إجراء البحث في الملفات المشبوهة تحت ستار إمكانية سلوك طرق الطعن ضد الحكم موضوع الشكاية أمام محكمة أعلى درجة التي قد ترتكب نفس الخطأ لأن اختصاصات ومهام المجلس الأعلى للسلطة القضائية تكمن في مراقبة عمل القضاة و تقويم اعوجاجهم وتحميلهم المسؤولية عن اخلالهم بمسؤولياتهم طبقا للمادة 85 من اختصاصات و مهام المجلس الأعلى للسلطة القضائية التي تنص على أنه: “يختص المجلس بالنظر فيما قد ينسب إلى القاضي من إخلال كما هو منصوص عليه في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة”، كما تنص المادة 87 من نفس القانون على أنه “لا تتم المتابعة التأديبية إلا بعد إجراء الأبحاث والتحريات الضرورية طبقا لأحكام الفقرة 2 من الفصل 116 من الدستور.”
يمكن للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إذا كان يريد فعلا تفعيل النصوص القانونية المتعلقة بالتأديب، أن يكتشف بسهولة الخطأ القضائي والتأويلات الخاطئة التي يتستر وراءها القاضي الذي أصدر الحكم وخرق القواعد القانونية الجوهرية وخالف القانون والواقع، وبالفعل توجد حالات عديدة تثبت أخطاء قضائية خطيرة منها على سبيل المثال الحالة التي ينصب فيها القاضي نفسه مدافعا عن أحد الأطراف فيحكم بما لم يطلب منه ويثير دفعا جديدا لم يسبق للخصم أن أثاره خلافا لمقتضيات المادة 3 من قانون المسطرة المدنية التي تنص صراحة على أنه “ينبغي على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات”، كما أن الاجتهاد القضائي يلزم المحكمة بالتقيد بما أثاره الأطراف ولا يجوز للقاضي مثلا إثارة دفع من تلقاء نفسه دون إثارته من طرف أحد الأطراف.
خروقات خطيرة للمسطرة الجنائية
وفي القضايا الجنائية يلاحظ ارتكاب سلسلة من الخروقات الخطيرة للمسطرة الجنائية نذكر منها على سبيل المثال محاكمة متهم بالقتل العمد مع سبق الاصرار والترصد في حالة سراح ورغم رفضه الحضور أمام المحكمة بعد إشعاره بالحضور تتاح له الفرصة للفرار فتصدر الغرفة الجنائية على إثر ذلك قرارا غيابيا وكأن المسألة تتعلق بقضية جنحية دون تطبيق المسطرة الغيابية في حقه كما تنص على ذلك المادة 443 من قانون المسطرة الجنائية، هذا خطأ قضائي خطير وتلاعب بالقانون و بحقوق المواطنين، هذه الأخطاء لا يمكن للمجلس الأعلى للسلطة القضائية السكوت عنها لأنها تمس سمعة المغرب في المجال الحقوقي خاصة في الوقت الذي تتعرض فيه بلادنا الى انتقادات حادة وهجمات إعلامية خارجية بخصوص وضعية حقوق الإنسان، وهكذا تستمر الأخطاء القضائية و تضيع حقوق المواطنين ولا أحد يستطيع مساءلة القاضي الذي يظل جاثما في منصبه طوال حياته دون محاسبة ولا مساءلة ولا مراقبة ولا تفتيش ولا تأديب تحت غطاء “مبدأ الاستقلالية”؛ مع العلم أن هذا المبدأ لا يعني أن القاضي يفعل ما يريد ويصدر الأحكام حسب عقليته وهواه ومزاجه وأنه محصن ضد المساءلة والمتابعة التأديبية، بل على العكس، فإن القاضي في الدول الراقية الديمقراطية مقيد برقابة سلطة أخرى أقرها الدستور.
توجه يتنافى مع مبادئ حقوق الانسان
أما وزارة العدل في بلادنا، فلم يعد لها أي دور في هذا المجال، فأصبحت مهمتها هي إحالة شكايات المواطنين على المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ومن الغرائب القانونية التي تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان، أن القانون في المغرب يحمل القاضي المسؤولية عن إخلاله بالاستقلالية والتجرد وليس عن التلاعب بالقانون، فالقاضي يطالب دائما بالاستقلال لغرض معين، فإذا كانت الإدارة مسؤولة عن الأخطاء التي يرتكبها الموظفون أثناء قيامهم بالأعباء الموكلة إليهم بسبب سلطة الرقابة والتوجيه التي تمارسها الدولة عليهم، فإن القانون في المغرب، مع الأسف، يعتبر القضاة مستقلين لا سلطان عليهم في تدبير ملفاتهم، فهذا توجه يتنافى مع مبادئ حقوق الانسان التي يتشبث بها المغرب في ديباجة دستوره، وللأسف لا يجد المواطن المظلوم أية جهة قضائية مستقلة للنظر في شكاياته ضد القضاة على غرار المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان التي تتلقى دعاوى المواطنين من جميع الدول الأوروبية، ونذكر منها على سبيل المثال الدعوى المشهورة التي رفعتها المحامية (France Moulin) بمدينة “تولوز” ضد الدولة الفرنسية على إثر اعتقالها بطريقة تعسفية من طرف النيابة العامة حيث حصلت على حكم ضد الدولة الفرنسية يدين الاعتقال التعسفي الذي تعرضت له هذه المحامية ويقضي بإبطاله مع تعويض مدني لفائدتها قدره 5000 أورو، كما اعتبرت المحكمة أن النيابة العامة ليست سلطة قضائية حتى يمكنها وضع الأشخاص بالسجن دون محاكمة علنية من طرف قضاة الأحكام فأصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان القاعدة المشهورة التي تقول: “النيابة العامة تتابع والقاضي يحكم” (Le procureur poursuit et le juge juge).
وأيدت محكمة النقض الفرنسية هذا القرار وكذلك المجلس الدستوري، هذه هي الدولة التي يتمتع فيها المواطن فعلا بحقوقه ويشعر فيها بالأمن والأمان والتي يتساوى فيها المواطن والدولة أمام القانون.