اطردوا الفقهاء من حياتنا اليومية
أثار الدكتور الريسوني بفتواه إباحة فوائد القروض التي ستمنحها الأبناك إلى الشباب الراغبين في إنشاء مقاولات بنسب قليلة انتقادات رموز السلفية الوهابية في المغرب وعلى رأسهم حسن الكتاني الذي خص د. الريسوني بتدوينة يرد فيها على الفتوى ويعتبر أن ما قاله الريسوني (في الحقيقة مصادم بالكلية لأصول الشريعة ومقاصدها ونصوصها) ومن ثم (أن الفائدة الربوية لا يشترط لتحريمها أن تكون كثيرة، وإنما قليلها وكثيرها سواء) وأن (عدم التسليم رأسا بأنها (البنوك) ليست ربحية، لأن ذلك خلاف الواقع باليقين، فهذه البنوك ليست مؤسسات خيرية، وإنما هي مؤسسات ربحية تجارية) و(أن كون هذه الفوائد للتغطية على الخسائر المحتملة جراء إفلاس بعض المقترضين أو وفياتهم الخ مجازفة خطيرة جدا من الدكتور الريسوني؛ ذلك أنه يعلم أو لا يعلم أن البنك يأخذ كامل احتياطاته حين إقراضه للناس تارة بالرهن، وتارة بمتابعة الورثة، وتارة بالحجز على الممتلكات.)
من هذا الجدال بين الشيخين يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1 ــ إن انفصال الشيوخ عن واقع المجتمع وتشرنقهم داخل منظومة فقهية أفرزتها ظروف اجتماعية وتاريخية لم تعد قائمة تجعل فتاواهم ليس فقط شاذة، بل عبئا على المجتمع لأنها لا تساهم في إيجاد مخارج لمن ضاقت بهم السبل ولا تقدم حلولا لذوي المشاكل ولا تخفف عن المعسرين، بل تزيد التضييق عليهم. وهذا حال حسن الكتاني الذي يفضل أن يبقى الشباب عاطلا على أن يستفيد من القروض بفوائد رمزية لإنشاء المقاولات وتحقيق أحلامهم وجلب المنفعة للمجتمع والمساهمة في تنميته.
طبعا، أمثال الكتاني يستغلون فقر الشباب وحاجتهم إلى المال لتجنيدهم في صفوف التنظيمات الإرهابية وإرسالهم لقتل المدنيين المسالمين في أوطانهم مثل سوريا والعراق وليبيا ومالي وبوركينافاسو وغيرها. إنهم يعدونهم بالمال والسبايا أو بالحور العين إذا ما قُتلوا . فإن لم يفلحوا في إرسالهم إلى مناطق التوتر فقد جعلوا من بلادهم “دار كفر” ومن مواطنيهم “زنادقة مرتدين” ومن أموالهم “فيئا وغنائم” ومن نسائهم “إماء وسبايا”. وبالمناسبة، ولبيان جهل حسن الكتاني للواقع الاجتماعي وقوانين الأبناك، فإن هذه الأخيرة تُسقط الأقساط المتبقية من القروض بمجرد وفاة المقترِض ولا تطرد أبناءه من المسكن المرهون لفائدة البنك كما لا تطالبهم بالسداد، الأمر الذي لا تفعله ما تسمى بالبنوك”التشاركية” أو “الإسلامية” التي تشرّد أسرة الهالك وتبيع العقار المرهون.
أما الريسوني، وإن لامس الواقع بفتواه حين أجاز قروض الشباب بالفائدة، فإن فتاواه بتحريم قروض الأبناك لباقي فئات المجتمع تصادم واقع الناس ومنطق العصر الذي لم يعد الفقه الموروث يستوعبه.
2 ــ إن الخلاف بين الشيوخ والفقهاء حول أمور الحياة اليومية والقضايا السياسية ليس رحمة ترفع الحرج عن المواطنين وتفتح أمامهم إمكانات عديدة يختارون منها ما يسعفهم في تحقيق أهدافهم ويريح ضمائرهم ، بل نقمة تشدّد عنهم أمور الدين والحياة معا وتفرض عليهم قرارات أبعد ما تكون عن الاختيارات، الأمر الذي يعقّد ظروف العيش ويعسّرها. فكل واحد من الشيوخ يزعم امتلاك الحقيقة واحتكارها ومن خالفه صارت فتواه “مصادمة لأصول الشريعة..”. هكذا فعل الريسوني نفسه مع واضعي ومؤيدي مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية. وأيا كان الاختلاف والخلاف بين الشيوخ والفقهاء، فجميعهم يتفقون على شيطنة المرأة وإغلاق فرص تنمية ذاتها وتنمية مجتمعها كما اتفقوا قرونا على استعبادها وإذلالها بقوانين الأحوال الشخصية (شروط الخلع والتطليق، ربط النفقة بتحقيق المتعة للزوج، بيت الطاعة، تزويج القاصرات، الطرد من بيت الزوجة، الاغتصاب والعنف الزوجي، حرمان الزوجة مما تراكم من الممتلكات الزوجية..). كل فتاوى الفقهاء المعمول بها في الأحوال الشخصية أو تلك التي تخص الحياة اليومية كانت ولازالت سبب الكوارث والمصائب والجرائم خاصة ضد النساء. فكل ما هو مفيد أو جميل أو مُفرح إلا وحرّمه الفقهاء (حرّموا الانتاجات التقنية والعلمية كما حرّموا التلقيح ضد الأوبئة وزرع الأعضاء والتبرع بها، حرموا الاحتفال بالأعياد العالمية مثل 8 مارس وعيد الحب ورأس السنة الميلادية ..)
3 ــ اعتماد نصيحة رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، إلى القمة الإسلامية المصغرة، التي انعقدت بعاصمة بلاده كوالالمبور من 18 إلى 21 ديسمبر2019 بطرد الشيوخ والفقهاء من حياتنا اليومية. فهو يتكلم من موقع المسؤول عن الدولة الذي خبر تعقيدات إدارتها وما تتطلبه من علوم ومعارف خالية من فتاوى الشيوخ التي قسمت شعوب ومجتمعات المسلمين إلى (جماعات وطوائف وفرق، يقتل بعضها بعضًا بدم بارد، فأصبحت طاقتنا مُهدرة بسبب ثقافة الثأر والانتقام التي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة، عبر كافة الوسائل، وبحماس زائد). لهذا شدد مهاتير على النصيحة التالية (إن قيادة المجتمعات المسلمة، والحركة بها للأمام، ينبغي أن لا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ..!!! فالمجتمعات المسلمة، عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية، التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ، أصيبت بالتخلف والجهل..!!!)
لقد حان الوقت لإرساء أسس الدولة المدنية الصرفة التي تضمن حرية الاعتقاد ولا تتدخل في ممارسة العبادات والشعائر، بحيث لا وصاية لشيوخ الدين وفقهائه على المؤسسات الدستورية وتشريعاتها المدنية؛ فكلما زاد نفوذ الشيوخ والفقهاء فسدت أخلاق الناس وتمزّقت الشعوب وزاد نفورها من التخصصات العلمية الدقيقة ، وهو الأمر الذي حذر منه مهاتير محمد حين كشف تداعيات( كلام العديد من الفقهاء، “بأن قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدم قد أثر سلبًا على المجتمع.!!فقد انخفضت لدينا نسب العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، بل بلغ الأمر، في بعض الكتابات الدينية، إلى تحريم الانشغال بهذه العلوم..!!!). لهذا جاءت صرخة مهاتير مهمد في العالم الإسلامي بطرد الفقهاء والشيوخ عن حياتنا اليومية.